وعود الديمقراطية المنكوثة

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٢/يناير/٢٠١٧ ٠٤:٢٠ ص
وعود الديمقراطية المنكوثة

اندريس فيلاسكو

تتعرض الديمقراطية الليبرالية للحصار؛ فالشعبويّون، سواء من الأحزاب اليمينية أم اليسارية، لا يصبّون جام غضبهم على فكرة العولمة أو الدخول الراكدة التي تتقاضاها الطبقة المتوسطة فحسب، بل أصبحوا يتشككون في شرعية المؤسسات التي تتبنى مفهوم الديمقراطية الليبرالية والنخب السياسية التي تدير هذه المؤسسات.

ومن السهل توجيه اللوم إلى ما بات يُعرف بسياسات ما بعد الحقيقة التي يمارسها هؤلاء الشعبويّون؛ فالأكاذيب والتصريحات المبالغ فيها لن تجدي نفعًا إذا خلت الممارسة الديمقراطية القائمة من المشكلات، ومن ثم فإنه من الواجب علينا أن نعيد النظر فيه وأن نسعى، قدر المستطاع، إلى معالجة ما أسماه المنظِّر السياسي الإيطالي «نوربيرتو بوبيو» بـ»وعود الديمقراطية المنكوثة».

ومن المعلوم أنه لا يوجد أحدٌ من بين أولئك الذين قاموا بحملات انتخابية لتقلد منصبٍ ما إلا وقد سمع العبارة المألوفة التي تتردد على ألسنة الناخبين: «أيها السياسيون، إننا نراكم فقط وقت الانتخابات»، فالمواطنون يخبرون مستطلعي الآراء بأن السياسيين يقفون على مسافة بعيدة منهم، وأنهم ليسوا أهلا للثقة، وهذه هي الثغرة التي يستغلها الشعبويّون.
إن الديمقراطية الحديثة لا تعدو كونها ديمقراطيةً تمثيليةً؛ فعندما يقضي النوَّاب المنتخبون بين جنبات البرلمان أوقاتًا أطول من تلك التي يتفاعلون خلالها مع المواطنين، فإنهم لا يُقصِّرون في أداء واجباتهم، بل يقومون بعملهم؛ بيد أن اللغة الخطابية التي تتبناها الديمقراطية الحديثة تزعم خلاف ذلك؛ حيث تؤكد على التحام المرشحين بالناخبين، ومعرفتهم بالقضايا التي تشغلهم، ولكن عندما يصبح التناقض مع الواقع صارخًا للغاية، يعاني القادة السياسيون من تدني مصداقيتهم. في الأنظمة الديمقراطية، يُعتبر السياسيون بمثابة وكلاء يتصرفون بناء على تفويض من الأصلاء (الناخبين)، وكما هو الحال في عالم الاقتصاد، فإن المشكلة الكائنة بين الوكيل والأصيل في الديمقراطيات تعدّ مشكلةً حقيقية؛ لأن الأصيل قد لا يستطيع تمييز الوكلاء الأكفاء من الوكلاء الذين يفتقرون إلى الكفاءة، فضلًا عن أن الوكلاء قد تحركهم مصالح خاصة تتعارض مع مصالح الأصلاء، ومن ثمَّ فإن المواطنين لديهم الكثير من الأسباب التي تدفعهم إلى عدم الوثوق بالسياسيين.
تسعى الديمقراطيات جاهدةً عبر الطرق المؤسسية إلى ضمان المواءمة بين مصالح السياسيين والناخبين. ففي بريطانيا، تتسم الدوائر الانتخابية التي تختار أعضاء البرلمان بصغرها نسبيًا، وفي الولايات المتحدة يتعيّن على مجلس النواب السعي إلى إعادة الانتخابات كل عامين؛ بيد أن هذه الحلول لا تخلوا من مشكلات، من بينها بروز سياسات ضيقة الأفق، واحتمالية أن يتسبب تواتر الانتخابات في عدم التفات السياسيين إلى مصالح الناخبين وتركيزهم على المصالح الخاصة التي تموِّل حملاتهم الانتخابية.
وأيضا يسعى الساسة الديمقراطيون إلى إقناع الناخبين بأن مصالحهم الخاصة تتواءم مع مصالح جمهور الناخبين، وقد تُفلح هذه المحاولات، كما هو الحال عندما يُفصح المسؤولون عن مصادر تمويل حملاتهم، ويكشفون عن الحالات المحتملة لتضارب المصالح، ومن الممكن أن تفشل هذه المحاولات أيضًا، كما هو الحال عندما ينقاد المرشحون لمخاوف الناخبين واستيائهم.
في الواقع، قام عدد من الباحثين مؤخرًا في جامعة هارفارد و معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بإعداد ورقتين بحثيتين رائعتين توضحان ظهور فكرة الشعبوية فيما يتعلق بمحاولات السياسيين الإيماء إلى الناخبين بأنهم لا يدينون بالفضل لأصحاب المصالح القوية، وبالتالي، فعلى الرغم من أن السياسات الشعبوية تتسبب في الحد من الرفاهة الاقتصادية ككل، إلا أن العقلاء من الناخبين يختارونهم على اعتبار أنهم يمثلون ثمن التمييز بين السياسيين على اختلاف أطيافهم. ووفقا لما جاء بإحدى الورقتين: «عندما لا يكون من الضروري أن يتمتع القادة بالأمانة، فقد يكون من الجدير تعيين أولئك الذين لا يتمتعون بالكفاءة».
يؤكد «بوبيو» على أن انعدام الثقة في الساسة الديمقراطيين مرجعه أيضًا إلى صعوبتين إضافيتين، تتمثل إحداهما في تعددية المجتمعات الحديثة؛ حيث تتنافس العديد من المصالح لكي تكون ممثلةً مع غياب الإرادة العامة للتمثيل لدى السياسي. أما الصعوبة الأخرى فتتمثل في أن الديمقراطية التمثيلية تخلو من مفهوم التفويض الملزم الذي يسمح للسياسي المنتخب أن يتصرف بطريقة معينة. فبمجرد أن يقع الاختيار عليه، يكون صاحب القرار فيما يتعلق بتحديد مصلحة المجتمع ونوع السياسات التي ستسهم في تقدمه.
يصبح احتمال تضارب المصالح واضحًا. وحتى مع استبعاد احتمال أن تتعارض المصالح التي يمثلها السياسي مع بعضها البعض، فلن يكون من السهل الوصول إلى اتفاق بشأن أفضل السياسات التي يجب تطبيقها، بل إن الأسوأ من ذلك أن السياسي الذي يتمتع بالكفاءة والأمانة قد ينتقي أفضل السياسات، بيد أنه في ظل بيئة من المعلومات المنقوصة، قد يفشل السياسي في إقناع الناخبين بأنه قد فعل الصواب. لنفترض أن الهدف يتمثل في إيجاد فرص عمل، وأن السياسي بصدد اختيار أفضل السياسات لتحقيق هذا الهدف، ثم تتسبب صدمة خارجية في انخفاض معدل العمالة، عندها لن يجزم الناخبون بمعرفتهم للسياسة الصائبة التي كان من الواجب تبنِّيها، ولكنهم سيتهمون السياسي بتضخيم حجم الصدمة أثناء تبريره لفرص العمل المهدرة، فكل ما يعرفه الناخبون هو أنهم لا يمكنهم الحصول على وظيفة عندما يرغبون في الحصول عليها، وبالتالي يوجهون اللوم إلى السياسي باعتباره المسؤول عن ذلك.
وكلما أصبح المجتمع أشد تعقيدًا وتزايدت صعوبة تقييم السياسات وانتقائها، تزايدت احتمالية ظهور هذا النوع من التوترات، وسوف يتبوأ التكنوقراطيون – الذين يتمتعون بالمعرفة اللازمة لصياغة قرارات سياسية معقدة – مكانةً اجتماعيةً عاليةً، ولكنهم في المقابل سيفقدون احترام الجمهور لهم. ولنتذكر ملاحظة وزير العدل البريطاني السابق «مايكل غوف» في غمرة نقاش «بريكست»؛ حيث قال: «إن الناس في هذا البلد لديهم ما يكفي من الخبراء»، أو بعبارة «بوبيو»: «التكنوقراطية والديمقراطية مفهومان متناقضان: فإذا كان الخبير من دعاة المجتمعات الصناعية، فإن هذا سيستتبعه استبعاد اضطلاع المواطنين البسطاء بدورهم المحوري».
أضف إلى ذلك عاملًا أخيرًا من عوامل التعقيد والمتمثل في أن التكنولوجيا تؤدي إلى زيادة هائلة في مستوى السرعة التي ينقل بها المواطنون مطالبهم المتعددة. فعمدة المدينة سيعلم تقريبا على الفور من تويتر أو الفيس بوك ما إذا كانت القمامة لم يتم جمعها من زاوية إحدى الشوارع، غير أن الضوابط والموازين تؤدي إلى تباطؤ أي نوع من أنواع الاستجابة. فإذا افترضنا أن العمدة يرغب في وضع نظام لجمع القمامة والتخلص منها، فإن هذا سيتطلب إعداد تقييمات مفصلة عن الأثر البيئي وإجراء مشاورات مطوَّلة مع المواطنين. وخلال السنوات التي سيستغرقها النظام الجديد قبل أن يدخل حيز التنفيذ، لن يتم جمع القمامة بين الحين والآخر، ما سيزيد – يوما بعد يوم – من احتمالية التناقض بين ما يتوقعه المواطن وما يمكن أن تقدمه الديمقراطية.

ربما لا يكمن الخطأ في الممارسة القائمة للديمقراطية فحسب، بل في رفع سقف الآمال من جانب بعض دعاة الديمقراطية. لقد فشل الساسة حقًا في الوفاء بوعود الديمقراطية، «ولكن» كما يتساءل «بوبيو» «هل كان من الممكن حقًا الوفاء بهذه الوعود؟ وأنا أقول أن ذلك لم يكن ممكنًا.»

وهنا ينطبق قول تشرشل المأثور: «الديمقراطية هو أسوأ نظام حكم باستثناء كل الأنظمة الأخرى». وفي ظل الديمقراطية التمثيلية الحديثة، يتمتع الناس بقدر من الحرية الشخصية والرخاء المادي أكثر من أي وقت آخر في تاريخ الإنسانية. إننا نقترب الآن أكثر من أي وقت مضى من تحقيق قيم الحرية والكرامة للجميع. أليست هذه الأمور كافية لتقديم دعاية قوية للديمقراطية الليبرالية؟

وزير المالية ومرشح سابق للرئاسة في تشيلي،

وأستاذ الممارسة المهنية في مجال التنمية الدولية في جامعة كولومبيا وقام بالتدريس في جامعة هارفارد وجامعة نيويورك.