التعليم العالي وأزمة ابتكار المستقبل

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٥/ديسمبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٥ ص
التعليم العالي وأزمة ابتكار المستقبل

مرتضى بن حسن بن علي

الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في العالم العربي مثقلة بكثير من المعوقات التي تبعدها عن رسالتها الحقيقية. فهي كمصادر فكر وعلم ومراكز للأبحاث مهمتها التعايش مع الحياة العملية والعلمية وأن تجعل الجيل الجديد على دراية بالواقع وتطوراته ودراسة همومه والتعرّف على مشاكله الفعلية وتطوير الطلبة علمياً وعقلانياً وبكل ما تملك من قدرة على البحث والتشخيص والتحليل وتكون على صلة وثيقة بينها وبين دنيا العمل.

والوظيفة الأساسية لمؤسسات التعليم العالي هي تأهيل الشباب تأهيلاً علمياً وسلوكياً وأن تبتكر بمرور الوقت مسارات للتقدم ونقل المعرفة إلى مجتمعاتها. غير أن الأنظمة التي تخضع لها تحد من قدراتها على مواكبة التقدم العلمي الذي يحصل في مثيلاتها من البلدان المتقدمة.

ولعل قدراً كبيراً وملحوظاً لذلك يتصل بضعف مرحلة التعليم الأساسي، وافتقار المجتمعات لمؤسسات إنتاج حقيقية من معامل ومصانع ومراكز للأبحاث الجادة، واختزال دور التعليم العالي إلى مجرد المانح للشهادات التي هي في أغلبها خالية من المحتوى وتعلّق داخل البيوت والمكاتب كجزء من الديكور الداخلي الذي يستر عيوباً عديدة في البناء. وفي ظل هذا الوضع لم يكن غريبا أن يقوم كل من التعليم والعمل بنفي الآخر ومحاصرة أدواره.

إن جدوى التعليم العالي ليس في العدد الذي ينسب إليه من الطلاب وإنما إلى جانب ذلك، هو نوعية التعليم الذي يقدم لتلك الأعداد. هناك كم من الموارد المخصصة للتعليم العالي يتم هدرها عندما ينصرف الاهتمام بالشكليات والأعداد وليس نوعية التعليم. فالنتيجة المطلوبة في النهاية هي إيجاد الكفاءة المتمكنة بالتعامل مع ما يستجد من تطورات، وبدون هدر الاستثمارات.

وهناك إشكالية أخرى عند دخول المتخرج إلى الحياة العملية، إذ يواجه أطراً تنظيمية وإدارية بالية لا تسهم في تسهيل مهمته وبناء الثقة لديه، علما بأنه في تلك المرحلة أحوج ما يكون إليها. إنه يبدأ يكتشف أنها تؤثر على عمله سلبا كما تؤثر على علاقاته بأقرانه في العمل ويكون التعامل معهم غير مبني على اعتبارات موضوعية بل على اعتبارات شخصية وليست مهنية، وتسلبه التركيز على الجانب الموضوعي من العمل الذي جاء ليؤديه، وتكون النتيجة أن يصاب بالإحباط. وإضافة إلى عدم قدرة أجهزة التعليم على صقل أفكار الطلبة وتحويلها من إطار المجردات إلى الإطار المشخص، تدفع بقسم منهم ولاسيما هؤلاء الذين لا يحصلون على العمل، على الهروب والبحث عن حلول طوباوية أو الالتحاق إلى عوالم وهمية حيث تتلقفهم قوى التطرف وتعبث بأفكارهم وتحد من مساهمتهم لتطوير مجتمعاتهم.
نستنتج بأن وجود مؤسسات التعليم العالي وتخرجهم لا بد أن يُقرن بجودة التعليم واستثمار الكفاءة المتخرجة في الموقع المناسب ووجود مؤسسات إنتاجية تستطيع استيعاب الخريجين، وبتطوير الأطر الإدارية والتنظيمية الملائمة وتيسر الاستفادة من الخريجين، الأمر الذي يستلزم التأكد من تحقيق التلاؤم كماً وكيفاً بين ما يتم تخرجه من هذه المؤسسات وبين حاجات المجتمع في مختلف الحقول. ومؤسسات التعليم العالي تعاني من مفارقتين واضحتين، فهي من جهة عاجزة عن استيعاب الأعداد الكبيرة المتدفقة من الطلبة في مجتمعات يتصف سكانها بالفتوة، ومن جهة ثانية فإن ضعف القاعدة الإنتاجية تجعلها غير قادرة على استيعاب ما يفرزه التعليم العالي من الخريجين. ويبدو أن الجهود التي تبذل من قبل مؤسسات التعليم العالي خجولة ومتواضعة مقارنة بنتائج التقصير والإهمال الطويلين اللذين أصابا التعليم العالي في العقود الماضية. وإذا لم تكثف تلك الجهود بوتيرة أسرع فإن التعليم العالي سيصبح أعجز في الغد من الوفاء لمطالب التنمية.
إن المجتمعات العربية من حقها أن تتوقع من مؤسساتها التعليمية عطاءً وإسهاما نشطاً في الاجتهادات الوطنية وفي تنوير القرار العام في شتى حقول الحياة الوطنية وأن تنظر إلى المستقبل بثقة ويتاح لها المجال بالاستعداد للمستقبل وتساهم بابتكاره.
والاستفادة من التعليم العالي تقاس بنهاية المطاف على قدر ما يسهم به المتخرج على تحسين وضع الحياة، وأن تتصل برامجها ببرامج التنمية بعيدة المدى. وذلك لا يمكن تحقيقه إلا برؤية شاملة لاحتياجات المجتمعات المستقبلية، والبحث عن أجوبة لعدد من الأسئلة: ما هو الواقع الذي تسعى إلى تجاوزه؟ وما الواقع الذي تسعى لتحقيقه؟ كيف يعد المجتمع نفسه للواقع الجديد في هذا العصر المعقد؟ ما المزايا التي يجب امتلاكها لتحقيق ما نريد في مثل هذه الأوقات سريعة التغيّر والتي يصعب التكهن بمستجداتها؟ وكيف يمكن أن نكتسب نقاط القوة تلك؟
والتعامل الصحيح والناجع مع هذه التحديات يتوجب عليها قبل غيرها أن تعطي لإدارة مؤسساتها أصلح وأنضج العناصر المهنية لتحمّل المسؤولية بما يوفر لها درجة معقولة من الكفاءة تحفظ حداً مأموناً من فرص النجاح. ولعل عليها بعد ذلك أن تتحذّر من منح نفسها سلطة احتكار الحقيقة أو تشعر بأنها معصومة من الأخطاء. وإيجاد آلية معقولة لرقابة العملية التعليمية برمتها لتكون خاضعة للنقاش والتقييم، وتصحيح المسارات كلما كان ذلك ضروريا. وعملية التطور الإنسانيِ عملية بالغة التعقيد وتدخل فيها وتتفاعل معها عناصر عديدة وتتطلب تضحيات كثيرة وقرارات صعبة مما يلقي على أجهزة التعليم العالي مهمة تكوين تيار عريض مقتنع بالتغيير وعلى استعداد للعمل وبذل كل الجهود الممكنة المتاحة من حوار ونقاش وإقناع وتحمّل المخاطر المحسوبة.
إن ما يحصل في العالم المتقدم ليس نتاج قوى طبيعية خارقة لا يمكن إعداد مثيل لها في مجتمعاتنا وهي أيضا ليست نتاج قوى خارجة عن متناول الفكر المستنير بل نتاج عمليات تفاعل بين البيئة واجتهاد الإنسان المعرفي في التعامل مع تلك البيئة، تصقلها وتسرّع من نتائجها وتفاعلاتها قدرة الإرادة على تجاوز المستحيل.
إن الأمم التي لا تشارك، لا تؤثر، ولا تتأثر مع هذا التفاعل المستمر لن يكون لها دور فاعل فيما يحصل في العالم وستكون عرضة لمزيد من التراجع والاضطراب.

والثروة والقوة عملية معقّدة ومركبة متعددة الجوانب. حجم من البشر وحجم من الموارد والمعرفة المتراكمة وحجم من التخطيط والإرادة وتنهض عملية الإنتاج وتتصاعد آثارها بالتنمية المستمرة ويترتب على ذلك بنيان اجتماعي كامل. وجيل الطلبة في مؤسسات التعليم العالي، أصحاب المشاكل والأحلام والطاقات الكامنة هم الثروة الحقيقية لأي بلد وهم الأمل المرتجى، ولا بد أن تؤخذ طموحاتهم وأحلامهم ومشكلاتهم على محمل الجد وإلا فانهم معرّضون للضياع وما تحمله الكلمة من معان وآثار وتداعيات مثلما نشاهدها. على أن وراء ذلك كله لا بد أن توجد رغبة قوية ومقتدرة لمعرفة مشاكلهم وإرادة قوية لتحقيق التقدم وتحسين فرص الحياة والتحسين المستمر لمستوى المعيشة. ولن يتم ذلك دون الاهتمام بالبحث العلمي والمعرفة المتدفقة والإنتاج المبتكر والمتقن.