مالية الدولة بين الإيرادات والإنفاق

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٥/ديسمبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٥ ص
مالية الدولة بين الإيرادات والإنفاق

علي بن راشد المطاعني

يثار بين الحين والآخر نقاش حول الإجراءات التقشفية التي تتخذها وزارة المالية في تخفيض الإنفاق الجاري وانعكاساته، ويسود النقاش نقد مبطن لهذه الخطوات ومدى فعاليتها في سد الفجوة بين الإنفاق والإيرادات، ويزداد الكلام حول إلغاء بعض الاستثناءات والمزايا الوظيفية لدى بعض الفئات من العاملين في الدولة، إلا أن البعض لا يدرك المسؤوليات التي تقع على عاتق مسؤولين في وزارة المالية في الموازنة بين الإيرادات المنخفضة والنفقات المتزايدة وكيفية التوازن بينهما، والضغوط النفسية والإدارية التي يتعرضون لها جراء هذه الحسابات المعقدة، والطلبات الجانبية من هنا وهناك، سواء بعدم إلغاء بعض البنود أو تخفيضها، أو طلبات تعجيل في صرف المبالغ وغيرها من طلبات مالية يسعى الكل إليها مهرولا لها، لا يدرك من أين وكيف تأتي فالمهم الحصول على الاعتمادات المالية.

ومع ذلك تجد الكثير من المنظرين لا تدخل ألسنتهم حلوقهم من كثرة الكلام بالامتعاض تارة والسب والشتم تارة أخرى، والسخرية مرات، فضلا عن اللوم والعتاب الذي نحن أكثر شطارة فيه، متناسين كل شيء تحقق وقت بحبوحة العيش في الفترات الفائتة، في حين لا نصبر على هذه الأزمة، وهنا يصدق قول المولى عز وجل: "إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً"، لكن ما نرغب التذكير به في هذا المقام، الآتي:

أولا: أن المسؤول المالي في أي مكان وأي مؤسسة أو جهة لا يحبه الكثير لما يتصف به من حسم في الأمور المالية وعدم المرونة في الحسابات والتوازن بين المتوفر والحاجة، فالبعض يدخل في عراك مع الماليين ويطلب مبالغ أكثر من الحاجة أو فوق المعقول أو الخطة الموضوعة أو الاعتماد بلغة المال، ومن الطبيعي أن يأتي الرفض من المالية سواء كانت دائرة أو وزارة لبعض الطلبات التي لم تعد أساسية أو أن الموارد المالية ليست كافية لتغطية كل الطلبات.

ومن الطبيعي أن يتضايق البعض من هذه الحقيقة التي لا يعيها إلا العارفون بها وأسرارها، فاليوم الجميع يلقي اللوم على وزارة المالية وما تقوم به من تقليص في الإنفاق، ويومئ الكل بيديه ورأسه ليرجع السبب لعدم توفر الاعتمادات المالية، والبعض لا يتورع من ذكر المسؤولين بالأسماء أنهم يغلقون الحنفية عليهم وكأنهم غرباء عن الأوضاع التي نعيشها مع الكثير من دول العالم التي تعتمد على النفط كمصدر أكبر للدخل.

ثانياً: وزارة المالية تعمل على التوازن بين الإيرادات والنفقات وهدفها الأكبر هو الحفاظ على المكانة المالية للدولة، واستقرار الأوضاع المالية في خضم هذه التطورات المتغيرة، وكيفية المواءمة بين النقيضين، وهنا مربط الفرس، فالمالية في هذا المقام تؤدي دورها كوزارة كغيرها من الجهات الحكومية والخاصة في تنفيذ خططها المتمثلة في الحفاظ على الوضع المالي للدولة، وهي مسؤولية ليست بسيطة في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة ووسط الضغوط من كل مكان بتسهيلات مالية وصرف رواتب والإيفاء بعقود وطرح أذونات وتوفير اعتمادات لمشاريع ومناقصات وغيرها من الالتزامات، فضلا عن العلاقة مع المؤسسات المالية الدولية، مع كل ذلك فالوزارة تعمل بشكل رائع جدا، ويجب أن نعزز دورها ونشد من أزر العاملين فيها على ما يقومون به في مثل هذه الظروف الصعبة.

فعلى سبيل المثال الإيرادات النفطية انخفضت بنسبة 60%، أي أكثر 11 بليون ريال عماني قبل العام 2014 إلى أقل من 5 بلايين ريال عماني في موازنة 2016، فهل تخفيض الإنفاق والرسوم التي فرضت تساوي أو تغطي نقص الإيرادات النفطية، بالطبع لا، لكن بفضل الجهود المبذولة لترشيد الإنفاق والسحب من الاحتياطي والاقتراض الداخلي والخارجي تسعى المالية لتغطية الفارق الكبير بين الإنفاق والإيرادات.

ثالثاً: يجب أن نكون أكثر واقعية في التعاطي مع الأمور والظروف، فاليوم ينفق الإنسان الواحد على قدر حاله وما عنده سواء كان فردا أو جهة أو شركة أو حكومة، وهذا ما ينبغي أن نعيه جيدا، فالحكومة ممثلة بوزارة المالية تنفق وفق ما لديها، فهي لم تبخل عندما كانت الأوضاع المالية جيدة والإيرادات كبيرة، وكانت لا ترد طلبا أو تؤجل مشروعا، ولا تطالب بتخفيض ولا تقلل مزايا ولا ولا ولا، أما اليوم فالأوضاع مختلفة جدا عن ما كانت عليه وهو ما يجب تقديره من الجميع، وبعد فترة وجيزة وعندما تعاد هذه الأزمة، لا نذكر المالية بالخير إلا عندما خفضت ماسورة الفلوس شوي، بدأنا ننقدها وننقد المسؤولين فيها.

رابعاً: الفرد اليوم لا يستطيع إدارة ميزانية بيته الذي قد يتكون من خمسة أفراد، والبعض يتضايق من مصاريف أولاده وزوجته مرات، عندما تشتري أكثر من احتياجاتها وتشتري سلعا غير أساسية ويفتح النار عليهم بالكلام من العيار الثقيل لماذا ولماذا، فكيف الأمر إذا كان يتعلق بمالية دولة وعليها التزامات كبيرة ومواردها قليلة، أليست الحكمة تقتضي تخفيض الإنفاق ومد الرجل على قدر اللحاف كما يقال أم التبذير بدون رقيب، فنحن يجب أن نوازي بين إدارتنا لمنزلنا وبين إدارة مالية دولة وبعدها نحكم على هذه الجهة أو تلك أو هذا المسؤول أو ذاك، فالكثير من الأحكام التي تطلق بدون دراية، فيها ظلم لجهات وأشخاص، لا ينبغي أن نقترفه إثما علينا. ومع ذلك الحكومة لم تذهب لجيوب المواطنين، وإنما خفضت مخصصات المسؤولين من وزراء ووكلاء بنسبة 60 في المئة من المزايا التي يحصلوا عليها كمكافآت سنوية، وتقليص المركبات العائلية وغيرها من مزايا ومهام السفر ودرجاته وغيرها.

طبعاً الإنفاق المالي وإدارته ليست مسألة سهلة كما يرى البعض، وإنما هي عمليات حسابية معقدة، والكل يرغب في أن ينفق بدون حسيب أو رقيب كما يقال، لكن هذا ليس في دول أو حكومات أو حتى في جهات، ولو لم تعمل وزارة المالية هذه الإجراءات وتخفض الإنفاق لأُغرقت البلاد في مديونيات والتزامات كبيرة ستدفعها الأجيال وتهتز مكانة السلطنة ماليا لدى المؤسسات المالية الدولية، فالإجراءات التي اتخذت لضرورات قصوى تفوق ما يحقق مصالح البعض.

نتفهم الأوضاع المالية والتقشف رغم أنها لم تمس الكثير من الجوانب الحياتية والأساسية في البلاد، ونفهم أكثر طلبات الجميع ورغبتهم في الانتعاش الاقتصادي لكن في المقابل يجب أن نقدر حسابات المالية والعاملين فيها فهم أدرى منا بهذه الجوانب.

نأمل أن نقدر الأوضاع المالية التي تمر بها الدولة ونعمل على تعزيزها بالحفاظ على مواردنا وتخفيف حدة الاستهلاك غير الضروري، وتقدير الظروف الراهنة جراء الأزمة التي يدرك الجميع تبعاتها ووقعها على الجميع. تحية لكل العاملين في وزارة المالية على ما يقومون به من دور كبير في توفير الاحتياجات المالية الضرورية، والحفاظ على المكانة المالية للدولة.