فصل في فنون العبث بالذاكرة

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢١/ديسمبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٥ ص
فصل في فنون العبث بالذاكرة

أ. فهمي هويدي

إذا كان التدليس السياسي استثناء في المجتمعات الديمقراطية التعددية، فهو أصل وقاعدة في مجتمعات الصوت الواحد.

(1)

في شهر نوفمبر الفائت اختارت قواميس أكسفود مصطلح «ما وراء الحقيقة» الذي هو ترجمة عربية لكلمة post truth ليكون مصطلح سنة 2016، نظراً لذيوعه ورمزيته في أحداث العام. وعرفته باعتباره يشير إلى الحالة أو الظروف التي يتضاءل خلالها تأثير الحقائق الموضوعية على صياغة الرأي العام، في حين تهيمن عليه العاطفة والمعتقدات الشخصية. الأمر الذي يصنع وعياً كاذباً لدى الجماهير لا صلة له بحقائق الواقع. بكلام آخر فإن المصطلح يعبر عن الحالة التي تطلق فيها الأكاذيب واحدة تلو الأخرى، على نحو يحدث تراكماً لدى الجماهير، يحولها بمضي الوقت إلى حقائق ومسلمات يصدقها الناس ويتداولونها فيما بينهم. والنموذج الذي يشار إليه في هذا الصدد يتمثل في انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب الذي جاء تعبيراً عن فاعلية حملة الأكاذيب. عبرت عن ذلك روث ماركوس كاتبة «الواشنطون بوست» التي نشرت مقالاً في 5 /‏‏‏ 12 كان عنوانه «مرحبا بكم في رئاسة ما وراء الحقيقة»، ذكرت فيه أن الأكاذيب كان لها الفضل في وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. وكلما زادت الأكاذيب التي يتفوه بها، زادت المكافآت التي قدمها له الناخبون، الذين رأوا أنه يقول الحقيقة دون تزيين.

(2)

ما سبق ليس رأياً خاصاً عبرت عنه الكاتبة الأمريكية، لأن الصحف الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً حفلت بعديد من الكتابات التي تناولت أكاذيب ترامب وفريقه. فصحيفة نيويورك تايمز نشرت مقالة لبول كروجمان الاقتصادي الأمريكي الكبير الحائز على جائزة نوبل ذكر فيه أن «ترامب أغرانا وخدعنا» وآدم سيرور كتب في «ذي اتلانتيك» منتقداً عالم ترامب الموازي الحافل بالأكاذيب. وقال إنه وفريقه «من طينة أناس يسعهم إعلان أن السماء خضراء من دون أن يرف لهم جفن». وتحدث فيرنر موللر أستاذ النظرية السياسية وتاريخ الأفكار بجامعة برينستون عن شعبوية ترامب وأنصاره الذين يسوقون مختلف الحجج لإلغاء مخالفيهم وادعائهم تمثيل كل الشعب.

في هذا السياق قرأت تحليلاً لظاهرة ترامب وزمن ما بعد الوقائع كتبه خبير الشؤون الأمريكية الزميل حسن منيمنة في صحيفة الحياة اللندنية (عدد 11/‏‏‏ 12) تحدث فيه عن أن الأكاذيب والأضاليل إذا صارت سمة الهوامش الثقافية فهو أمر مقدر، لكن أن تكون الصفة الغالبة على الحوار السياسي فأمر مقلق. أما أن تصل الظاهرة إلى موقع الرئاسة وأن بالكامل فأمر خطير ذو تداعيات أكيدة. ومما ذكره أن اليمين الجمهوري الذي يحيط بترامب تجتمع فهي نظريات المؤامرة بالغيبيات والعنصرية والصلافة. حيث يصبح خطابه نموذجا لتغييب الوقائع والمعطيات من قبيل الادعاء بأن هيلاري كلينتون ومن معها يديرون شبكة دعارة للأطفال تتعاطى لحوم البشر في إطار طقوس شيطانية ويمسي الاعتراض على هذا التيه بحد ذاته مؤامرة ومسعى إلى منع تقصي الحقيقة وحرية التعبير.
(3)

الحوار حول بروز ظاهرة «ما وراء الحقيقة» تزامن مع إعلان نتائج دراسة أجراها فريق من الباحثين البريطانيين والكنديين حول «زرع الذاكرة الكاذبة». وقد وقعت على خلاصة تلك الدراسة في تقرير نشرته صحيفة الشرق الأوسط (عدد 9 /‏‏‏ 12) تبين منها أن كثيرا من الناس يتذكرون أحداثا لم تقع قط، ومع ذلك فإنهم يبدون على ثقة من وقوعها جراء الإلحاح على تزوير أو خلط المعلومات أثناء عرض الأخبار، نتيجة تكرارها على مسامعهم بصياغات مختلفة في العديد من المناسبات. وهو ما يؤدي إلى تكوين ذاكرة جمعية خاطئة. الأمر الذي يؤثر على سلوك الناس ومواقفهم الاجتماعية فضلا عن السياسية. وهو ما دعا الباحثين إلى التشكيك في دقة وصحة أقوال الشهود في استنادهم إلى الذاكرة أثناء التحقيقيات الجنائية وداخل قاعات المحاكم. نشر الدارسون نتائج أعمالهم في ثمانية أبحاث تضمنتها مجلة «ميموري» لدراسات الذاكرة وقد خصصت كلها لجوانب مختلفة لموضوع «زرع الذاكرة الكاذبة». وأشرفت على العملية الدكتورة كمبرلي وايد بجامعة واريك البريطانية وساهم فيها اثنان من الباحثين الكنديين. وأظهرت دراسة الدكتورة وايد أن الأشخاص الذين تقدم لهم معلومات متخيلة عن أحداث في بداية أعمارهم، ويقومون مراراً وتكراراً بتخيل أن تلك الأحداث وقعت لهم، يتعرض نصفهم إلى التصديق بوجودها فعلا. وظهر أن نصف ما مجموعه 400 مشارك في عملية زرع الذاكرة هذه، من الذين عرضت عليهم معلومات كاذبة عن حياتهم، اعتبروها جزءا حقيقيا من تاريخهم. وقال 30% منهم إنهم «يتذكرونها» وتحدثوا بالتفصيل عن جوانبها. بينما قال 23 % آخرون إنهم يعتبرون تلك الأحداث جزءا من تاريخهم.
(4)
الباحثون معهم حق حين تستنفرهم ظاهرة الكذب السياسي أو زراعة الذاكرة الكاذبة. فتلك ممارسات تشكل استثناء على منظومة القيم السائدة في مجتمعات الديموقراطية. فضلاً عن أن أجواء الحرية والتعددية المتاحة لهم تمكنهم من كشف مواضع التدليس وتبصير الناس بالحقائق الخافية. إلا أن المشكلة أكبر بكثير في المجتمعات غير الديمقراطية التي يهيمن عليها الصوت الواحد، التي تضمن ضخ الأكاذيب طول الوقت بما يكفل غسل الأدمغة وتعميم الذاكرة الكاذبة.
في عالمنا العربي قائمة طويلة من العناوين والشعارات الأخرى التي أطلقت خلال السنوات الأخيرة، وشكلت وعيا عاما لم يعرف وجه الحقيقة فيه. ولكن الإلحاح الإعلامي صاحب الصوت الواحد حول العناوين الملتبسة، من خلال الذاكرة التي تم زرعها، إلى حقائق ومسلمات مستقرة. إذ شمل الالتباس مصطلح «الربيع العربي» الذي أصبح يطلق عليه وصف «الخراب العربي» في العديد من منابر الإعلام، وجرى الربط بينه وبين مظاهر الفوضى التي شهدتها بعض الأقطار، والتي حركتها قوى الثورة المضادة حين سعت إلى إفشال الربيع بكل السبل. وهذا التشويه أصاب ثورة 25 يناير في مصر التي صار البعض يشير إليها بحسبانها «مؤامرة» دبرتها قوى أجنبية وليست انتفاضة باهرة للشعب المصري. وبمناسبة المؤامرة فإن ثمة خطابا في مصر دائم الإشارة إلى أن البلد مستهدف وأن الكل يتآمر عليه من جانب «أهل الشر». ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن وقائع التاريخ المصري منذ 25 يناير عام 2011 وحتى اللحظة الراهنة تمت صياغتها من وجهة نظر واحدة. ولا تزال بحاجة إلى تحقيق وفرز. ذلك أنه صار لدينا تاريخان لثورة 2011، أحدهما قضائي محايد قامت بتحريره لجنة تقصي الحقائق التي رأسها المستشار عادل قورة، وآخر أمني نسخ الأول وجرى تصميمه لتبرئة الشرطة من قتل المتظاهرين وتصفية الحسابات السياسية أمام القضاء في وقت لاحق.
ليس الأمر مقصورا على الذاكرة السياسية فحسب، ولكنه شمل أيضا الذاكرة التاريخية. ففي ثنايا الحملة ضد الإرهاب صور البعض التاريخ الإسلامي على أنه رحلة للدم. وبعد تفجير الكنيسة البطرسية جرى انتقاء بعض المعلومات الشاذة في كتب التراث وقدمت باعتبارها «قنابل التكفير». ومنها ما عبر عن ازدراء أهل الكتاب. ومن شأن كل ذلك أن تظل الحقيقة تائهة وضائعة، بحيث يتم تشكيل المدارك والرأي العام تبعا للأهواء والنزوات السياسية الطارئة.

كاتب مصري