دونالد ترامب والنظام الاقتصادي الجديد

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٧/ديسمبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٥ ص
دونالد ترامب والنظام الاقتصادي الجديد

مايكل سبنس

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان التسلسل الهرمي للأولويات الاقتصادية واضحاً نسبياً. فعلى القمة كانت أولوية تكوين اقتصاد عالمي مفتوح ومبدع وديناميكي ومدفوع بالسوق، حيث يكون بوسع كل الدول (من حيث المبدأ) تحقيق الازدهار والنمو. وفي المرتبة الثانية من الأهمية -وربما بعد مسافة بعيدة عن الأولى- كانت أولوية توليد أنماط نمو وطنية قوية ومستدامة وشاملة، لا أكثر.

ويبدو أن انقلاباً يجري الآن في واقع الأمر. فقد أصبحت الأولوية الآن لتحقيق النمو القوي الشامل على المستوى الوطني لإحياء الطبقة المتوسطة المنحدرة، ودفع عجلة الدخول الراكدة، والحد من البطالة بين الشباب. أما الترتيبات الدولية التي تحقق المنفعة المتبادلة والتي تحكم تدفقات السلع ورؤوس الأموال والتكنولوجيا والبشر (أشكال التدفقات الأربعة في الاقتصاد العالمي) فلا تصبح مناسبة إلا عندما تعمل على تعزيز -أو على الأقل لا تعمل على تقويض- التقدم على مسار تلبية الأولوية القصوى.

وأصبح هذا الانقلاب واضحاً في يونيو عندما صوت البريطانيون -بما في ذلك أولئك الذين استفادوا بشكل كبير من النظام الاقتصادي والمالي المنفتح الحالي- لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، استناداً إلى ما قد يسمى مبدأ السيادة. فكان الناس ينظرون إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي بوصفها سببا لتقويض قدرة بريطانيا على تعزيز اقتصادها، وتنــــظيم الهجرة إليها، والتحكم في مصيرها.
وكان رأي مماثل مشجعاً للحركات السياسية القومية والشعبوية في مختلف أنحاء أوروبا، والتي تعتقد أغلبها أن الترتيبات فوق الوطنية ينبغي لها أن تأتي تالية في الأهمية للرخاء المحلي. وكان الاتحاد الأوروبي -الذي يترك في هيئته الحالية الحكومات الأعضاء مفتقرة إلى الأدوات السياسية اللازمة لتلبية احتياجات مواطنيها المتطورة- هدفا سهلا.
ولكن حتى في غياب مثل هذه الترتيبات المؤسسية، هناك شعور بأن التركيز على الأسواق والارتباطات الدولية من الممكن أن يعيق قدرة أي بلد على تحقيق مصالحه الخاصة. وجاء فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ليجعل هذا واضحا تمام الوضوح.
وتماشيا مع شعار حملة ترامب الرئيسي «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، كانت التعليقات حول مبدأ «أمريكا أولا» هي الكاشفة على أعظم نحو. فرغم أن ترامب ربما يلاحق اتفاقيات ثنائية تحقق المنفعة المتبادلة، فبوسع المرء أن يتوقع أن تكون هذه الاتفاقيات خاضعة للأولويات المحلية، وخاصة الأهداف التوزيعية، ومدعومة فقط بقدر ما تتماشى مع هذه الأولويات.
الواقع أن إحباط الناخبين في الدول المتقدمة إزاء البنية الاقتصادية العالمية القائمة على السوق ليس بلا أساس. فقد سمح هذا النظام لقوى عاتية، وفي بعض الأحيان خارجة عن سيطرة المسؤولين المنتخبين وصناع السياسات، بتشكيل الاقتصادات الوطنية. وقد يكون صحيحاً أن بعض نُخَب هذا النظام اختارت تجاهل العواقب التوزيعية السلبية وتلك المرتبطة بتشغيل العمالة والمترتبة على النظام القديم، في حين لم تتردد في جني الفوائد. ولكن من الصحيح أيضا أن النظام القديم، الذي اعتُبِر مقدسا، أعاق قدرة النخب على معالجة هذه المشاكل، حتى ولو حاولت.
لم تكن هذه هي الحال دائماً. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ساعدت الولايات المتحدة، مدفوعة بالحرب الباردة جزئيا، في إنشاء النظام القديم عن طريق تسهيل التعافي الاقتصادي في الغرب، وبمرور الوقت توفير فرص النمو للدول النامية. وعلى مدار ثلاثين عاما أو نحو ذلك، كانت الجوانب التوزيعية في أنماط النمو العالمية التي أسست لها هذه الجهود إيجابية، سواء للدول فرادى أو العالَم ككل. ومقارنة بكل ما جاء من قبل، كان نظام ما بعد الحرب نعمة للشمولية.
ولكن دوام الحال من المحال. فمع انحسار فجوة التفاوت بين الدول، اتسعت فجوة التفاوت داخل كل دولة -إلى الحد الذي يشير إلى أن انقلاب الأولويات على هذا النحو ربما كان حتمياً. والآن بعد حدوث الانقلاب بالفعل، بدأت العواقب أيضا تصبح ملموسة. ورغم صعوبة الجزم بهذه العواقب على وجه التحديد، فإن بعضها يبدو واضحا إلى حد كبير.
فبادئ ذي بدء، ستكون الولايات المتحدة أكثر عزوفا عن استيعاب حصة غير متناسبة من تكلفة توفير المنافع العامة العالمية. وفي حين قد تتمكن دول أخرى من اللحاق بالركب في نهاية المطاف، فستظل هناك فترة انتقالية لمدة غير معلومة، وربما تتراجع الإمدادات من هذه المنافع العامة العالمية خلال هذه الفترة، ومن المحتمل أن يعمل هذا على تقويض الاستقرار. على سبيل المثال، ربما يُعاد التفاوض على شـروط المشاركة في منظمة حلف شمال الأطلسي.
وستفقد التعددية أيضا زخمها -برغم تمكينها لفترة طويلة بفضل نفس النوع من المساهمة غير المتماثلة، وبرغم كونها متناسبة عادة مع دخول وثروات الدول- مع تسارع الاتجاه نحو اتفاقيات التجارة والاستثمار الثنائية والإقليمية. ومن المرجح أن يكون ترامب نصيرا رائدا لهذا الاتجاه؛ والواقع أن حتى اتفاقيات التجارة الإقليمية ربما تصبح مستبعدة، كما تشير معارضته للتصديق على اتفاقية الشــــــراكة عبر المحيط الهادئ التي تشترك فيها 12 دولة.
ويساعد هذا في توفير الفرص للصين لقيادة إنشاء اتفاقية تجارية لآسيا -وهي الفرصة التي يستعد قادة الصين بالفعل لاغتنامها. وبالتزامن مع استراتيجيتها «حزام واحدة وطريق واحد» وتأسيسها للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، سيتمدد نفوذ الصين في المنطقة بشكل كبير نتيجة لهذا.

حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وأستاذ الاقتصاد بكلية ستيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك.