نراهن على الآخر.. فماذا نحن فاعلون؟

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠١/ديسمبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٠ ص
نراهن على الآخر.. فماذا نحن فاعلون؟

محمد محفوظ العارضي

رغم تكرار التجربة العربية ذاتها بالرهان على الآخر، إلا أن بعضنا لا يزال يصّر على هذا الرهان. هذا ما أثبتته الانتخابات الأمريكية الأخيرة، فالتحيز الأعمى من قبل الجمهور العربي لأحد المرشحين ومحاربة الآخر وكأننا نخوض انتخابات داخلية في بلداننا، هو تحيز غير مبرر بل يصل إلى مرحلة من الرهان تلغي الذات وتلغي مكانتها في معادلة العلاقات العربية الخارجية. والأخطر من ذلك أنها تلغي قدرتنا على تحليل وقراءة المتغيرات بشكل علمي بحيث نخرج باستنتاجات تصب في خانة مصالحنا العربية التي كنت أتمنى أن أطلق عليها صفة «المشتركة».

لقد حمل الجمهور العربي جميع قضاياه المعلقة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية، بل وحتى قضايا التعليم والصحة والخدمات والواقع الاجتماعي المفكك، ووقف ينتظر نتائج الانتخابات الأمريكية وكأنها ستأتي بالحل السحري لجميع هذه القضايا أو ستشكل مدخلاً لحلها.

التناقض الذي ساد الجمهور العربي، كان تناقضاً بين تيارين، الأول يعتقد أن فوز أحد المرشحين سيجعله يحمل عصاه السحرية ليخرجنا من هذه المرحلة المأزومة، والثاني يعتقد أن فوز هذا المرشح سيعمق جهلنا وتخلفنا وتعثرنا وسيقطع الطريق على خطط التنمية والارتقاء بمستوى قطاعي التعليم والصحة وإعادة هيكلة اقتصادنا من جديد.
إن السبب في هذا الارتهان المطلق، أننا تعودنا أن نكون دائماً مشروعاً للآخر، لأننا لا نملك مشروعنا الخاص بمعزل عن المتغيرات الخارجية. وتعودنا أن نستقبل حلول مشاكلنا من فوق، أن تأتينا إما على شكل هيمنة مقنّعة أو احتلال عسكري مباشر، أو على شكل إجماع دولي في مؤتمر دولي يشبه الكثير من المؤتمرات الموسمية التي نسمع رعودها ولا نرى مطرها.
لا ننكر أن السياسات الأمريكية الخارجية لها تأثير كبير على قضايا العالم، ولكن هذا لا يلغي أن العامل الأساس في تحديد مصير أي قضية هي موقف أصحابها ذاتهم، وتمسكهم بجذور حلها مهما كانوا أقلية أو ضعفاء. ألم يجبر نيلسون مانديلا نظام جنوب أفريقيا العنصري على اللجوء للانتخابات التي حولته من سجين خارج على القانون، إلى رئيس منتخب معترف به من العالم أجمع؟ لم يملك مانديلا في سجنه سوى صلابة موقفه وإيمانه بعدالة قضيته ورفضه لمقايضة حريته بإدانة سنوات كفاحه وكفاح رفاقه، فكانت النتيجة أن غيرت هذه الصلابة والتمسك بمشروع الذات، كامل المشهد الأفريقي... فماذا نحن فاعلون تجاه قضايانا؟
صحيح أنه يجب أن نقرأ المشهد الدولي واتجاهاته، ولكن بدون رهان على الآخر. وصحيح أنه يجب اتخاذ مواقف وسياسات على ضوء هذه القراءة، ولكن بدون أمل بأي شيء أو أحد سوى بما نملك نحن كعرب من قوى كامنة مفعّلة وغير مفعّلة، بحيث نبني علاقتنا مع الآخر على أساس أننا نحن من يحدد مصالحنا الخاصة.
لقد جاء فوز ترامب تعبيراً عن أزمة أمريكية داخلية، فاقمتها الأزمة المالية العالمية الأخيرة التي وسعت من مساحات عدم الثقة بين الشركات المالية وبين الجمهور. ولأن ترامب اختار أن يتحالف مع رأس المال الإنتاجي على حساب رأس المال المالي، ولأنه غلّب في خطابه المصلحة القومية الأمريكية على مصلحة النظام المالي العالمي، فاز وخسرت كلينتون لأنها استمرت في حماية مصالح هذه الشركات وهيمنة النظام المالي العالمي على مفاصل الإنتاج والاستهلاك في العديد من دول العالم بما فيها أمريكا.
هذا هو الفرق الأول بين المرشحَين، والذي يجب أن يشكل درساً في طبيعة التحالفات القادمة بين السياسة والاقتصاد. لقد حذا ترامب في هذا التحالف حذو الروس والصينيين وبعض دول أمريكا اللاتينية وأوروبا، الذين أدركوا بفعل الدروس القاسية للأزمات الاقتصادية أن رأس المال المالي لا يعني شيئاً بدون إنتاج وأصول ملموسة تثري حياة الناس وترتقي بواقعها الاجتماعي.
أما الفارق الثاني، فأول ما سيقوم به ترامب هو إغلاق المشاريع السياسية التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية خارجياً، وسيؤدي هذا إلى استبدال الدولار جزئياً لصالح العملات الإقليمية، فرؤية ترامب للعالم، أنه مجموعة من الأقاليم ولكل إقليم عملته وقيادته واستقراره، وبالتالي ستتشكل منطقة الروبل والاتحاد الأوراسي، وهذا يحتاج إلى توافق بين بوتين وترامب على ترسيم حدود هذا الاتحاد خصوصاً بين منطقة برلين التي تسيطر عليها النخب المالية المؤيدة لهيلاري كلينتون وبين منطقة موسكو. ومن ثم سيبدأ ترامب مباحثات مع الهند والبرازيل والصين لرسم حدود عملاتها الإقليمية. ومن المحتمل أن يضم الاتحاد الأوراسي، القطب المقابل للقطب الأمريكي، كلاً من أوروبا الشرقية، وتركيا، وآسيا الوسطى، واليابان وكوريا وفيتنام، وقد يمتد نفوذه ليصل مجموعة البريكس في أمريكا الجنوبية.
إن العالم مقبل على تغيير في خارطته السياسية والاقتصادية، فأين نحن كعرب من هذا التغيير، على الأقل على المستوى الاقتصادي؟ نحن بحاجة الآن إلى سياسات عامة لدعم العملات المحلية، وإلى استثمارات سيادية وطنية تتجه للصناعة والإنتاج والاستقلالية لدعم العملة المحلية، وهذا أيضاً يستوجب سياسات مصرفية بحيث تكون مصارفنا حاضنة لنمو العملة المحلية وليست مجرد وعاء للعملات الأجنبية.
إن الدرس الكبير الذي يتكرر في كل انتخابات أمريكية، هو أن السياسات الأمريكية الخارجية ستظل انعكاساً للمصالح الأمريكية مهما تبدل شكل تحقيق هذه المصالح. أما الاختلاف في توجهات كلينتون وترامب فهو اختلاف على صياغة هيكلية هذه المصالح ووضع أولوياتها وتحديد من يقودها: هل هو النظام المالي العالمي أم النظام العالمي الإقليمي الذي أرى أنه من الصعب أن يستقر في شكله بدون التوافق على القضايا الكبرى مثل قضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي.
فإذا كان العالم سيشهد تحولات جذرية، لنكن فاعلين في هذه التحولات، على الأقل على صعيد بناء تكتلات اقتصادية واجتماعية ملتزمة بمشاريعها الذاتية.
أمام الخليج العربي اليوم فرصة لتعزيز وحدته وتشكيل رؤية اقتصادية متكاملة تؤسس لسوق خليجية مشتركة. ستبقى اتفاقية التجارة الحرة موضع خلاف بين قادة العالم مهما اتفقوا على الصلاحيات الإقليمية، وكذلك ستبقى مشكلة الأقليات في الشرق الأوسط والأدنى بدون حل أيضاً. والشيء ذاته ينطبق على مخططات الانسلاخ لبعض الأقاليم عن دولها الأم، فتقسيم العالم إلى أقاليم سيعزز من النزعات الشوفينية لدى الأقليات، التي سترى في تراجع المشاريع السياسية الأمريكية فرصة لإعادة إحياء مشاريعها الخاصة.
إن هذا التحليل لا يعني أنني منحاز لترامب ضد كلينتون أو العكس، فناخبو كلينتون وداعموها تسببوا -بدون وعي- بفوز ترامب، لأن الأخير هو نتيجة طبيعية للسياسات التي تتبناها كلينتون.
أنا منحاز لقضايانا العربية الخاصة التي تفترض أن نفهم توجهات العالم ليكون لنا تأثير في نتائجها. سيشكل الاقتصاد جوهر التغيرات القادمة، سيضع الإنتاج بعض الدول في المقدمة، وسيبقي الاستهلاك سوقاً مفتوحة لمشاريع الآخر، كما سترسم خريطة التحالفات بين السياسة والاقتصاد شكل مستقبلنا العربي، التحالف بين السلطة ورأس المال المنتج سيجعل السلطة أكثر قبولاً من الجمهور وبالتالي أكثر استقراراً وقدرة على التأثير في السياسات الخارجية. أما التحالف مع رأس المال المالي، فسيضع السلطة في مهب المتغيرات وقد تكون ضحية ما ستؤول إليه الأوضاع في المرحلة المقبلة. ستظل التكنولوجيا وجعنا الأبدي، إلا إذا بدأنا في إنتاجها وامتلاك تقنية تصنيع رقمية حديثة. أما النزاعات الإقليمية والفئوية العربية، فهي محك اختبار سياساتنا الاجتماعية، التهميش الاجتماعي واحتكار التنمية من قبل المدن المركزية على حساب الأطراف الأخرى لن يبشّر إلا بمزيد من النزاعات والتفتيت والضعف وهيمنة قوى اقتصادية صغيرة على أسواقنا العربية بحيث تبقى الأفضلية للاستثمار الأجنبي على حساب الوطني.
إن التسارع في المتغيرات العالمية يستوجب منا تسريع مخططات التنمية، وتحفيز كافة عوامل القوة التي نملك، واستحداث ما لا نملكه منها. فهل سننجح هذه المرة في اختبار السباق مع الزمن؟ أم سيتجاوزنا الزمن لنبقى تحت مسمى دول العالم الثالث مرةً أخرى؟