مسقط - الشبيبة
بقلم: سمعان كرم
وصلنا الفندق في ضواحي نزوى بعد الظهر من نهار الخميس. خرجنا ساعة العصر إلى القلعة. أمام المدفعين اللذين يحميان المدخل والباب الكبير، وجدنا سيارتين شكلهما يذكر بأوائل السيارات عندما وُلدتْ في القرن الفائت، وأمامهما شابان عمانيان عرفنا أنهما مرشدان سياحيان، يقودان السيارة الكهربائية تلك ويأخذان السياح في جولة في زقاق وشوارع القرية التي كانت تعيش تحت حماية القلعة الدائرية الشكل. كالأطفال جلسنا في السيارتين المكشوفتين من كل الجوانب وانطلقنا في رحلة الماضي. عدنا إلى ذكريات الصِغَر والطفولة والمرشدان إلى ذكريات الاحياء القديمة. شابٌ مثقفٌ ومهذّب وصبور علينا يقود سيارتنا. قد يكون جامعياً يعمل جزئياً بعض الوقت.
هذا مسجد الفرض وذاك مسجد الشواذنه، هذا تنّور الشواء وذاك سُور العقر يخترقه صَباح أبي المؤثر. نقف عند الفلج الغزير الذي لاينضب كرماً فيزود الناس بمائه ويروي النخيل والمزروعات. التقينا بطفلين اخوين ينظرون بدهشة إلينا. سلّمت عليهما شفهياً من وراء الكمامة وسألت الصغير منهما عن اسمه فأجاب ’سلطان اليعربي‘. نحن هنا في قلب عاصمة الداخلية. في المساء أكلنا وجبة عشاءٍ محلية، حضرتها لنا رائدة أعمالٍ من المنطقة في مطبخ مطعمها وسط المدينة.
في صباح اليوم التالي، اخذنا الشارع المزدوج الذي يربط الداخلية بالظاهرة وتأملنا جامع السلطان قابوس الذي يقف معلماً معمارياً في غاية النقاوة. مررنا بأكاديمية الشرطة التي يرافق سورها الخارجي الطريق على عدة كيلومترات، ودخلنا بُهلا واعجبنا بقلعتها المرممة إلى أن وصلنا إلى حمراء العبريين ومنها صعوداً إلى المسفاة، لؤلؤة الجبل الأخضر ومثال السياحة الطبيعية. البلدة متقدمة على اخواتها في الأبتكار وريادة الأعمال. تحت ظل النخيل الشامخ وعلى الصخور الضخمة التي تركت أمها في الجبل ونزلت ترتاح في الوادي، قامت البيوت القديمة المبنية من حجر وطين. يحضن الجبل البلدة من الجهتين وكأنه يخاف عليها من معتدٍ. ادراجٌ من حجر تهبط بك سريعاً إلى المنخفضات. هنا بيت قديمٌ رُمّمَ وحُدّثَ من قبل مهندسين معماريين جاؤوا من جامعات غربية وابدعوا في زرع مقهى روهان في البيئة الحاضنة له، فزادها جمالاً ولا تحدياً. في ساحة قبيبة ارتفع حائط تنور الشواء. من اراد تحضير شوائه مع المجموعة، وضع علامة فارقة ليتعرف على لحمه عندما يخرجه من النار. هذا نزلٌ للسياح وهذا بائع عسلٍ من مرعى شجرة السدر. يعلو صوت ولدٍ يقود حماراً يحمل على ظهره من انهكتهم الدرجات. ينهق حمارٌ آخرٌ انهى رحلته.
عندما تعود إلى ساحة البلدة عند مدخلها العلوي، تجتذبك رائحة المشاكيك يدوّرها فوق النار ولدٌ لم يصل بعد إلى الخامسة عشر من عمره، يساعده اخوه الصغير في عمله. تزدحم هناك السيارات وتتنافس على المواقف الجانبية التي تقضم عرض الشارع. لا مواقف متخصصة للمركبات. يحلم أهل المسفاة بموافقة المسؤولين على مشروع تمديد حبلٍ حديدي بين الجبلين فيتمكن المغامرون والسياح أن يعلّقوا أنفسهم فيه وينزلقون عليه من جهة إلى اخرى وتحتهم الوادي ومناظره الخلابة (ZIP LINE). القرية بكاملها مجهّزة لإستقبال السياح. بيوتها باقةٌ من المؤسسات الصغيرة المزدهرة والتي تطمح للإستدامة والنمو.
نزلنا من المسفاة وعدنا إلى الحمراء ومنها إلى الطريق الذي يرفعك إلى ’بركة الشرف‘ على ارتفاع الفي متر فوق سطح البحر. الشارع المعبّد ينساب على سفح الجبل إلى أن يصل إلى نقطة فائقة الجمال. تنظر منها شمالاً فترى وادي بني عوف حتى اطراف الرستاق وقد عُلّقت على الجبل قرية ’بلد سيت‘ وقرية ’هاط‘. وإن نظرت جنوباً بانَ عليك سهل الحمراء وبُهلا والداخلية. وإن حوّلت نظرك إلى الغرب، شاهدت جبل شمس الشامخ نحو السماء. على التلال سياحٌ عمانيون ووافدون جلسوا على ابسطة يرتاحون ويأكلون ويشربون. استراحة حديثة بُنيت لاستقبال الزوّار.
هذا الشارع الذي يبدأ في الحمراء ينتهي تعبيده في ’بركة الشرف‘ ولايزال ينتظر امتداده حتى قرية هاط ومنها إلى جبل الرستاق عبر وادي بني عوف فيربط الباطنة بالداخلية.
بعدها عرّجنا على كهف الهوته واشترينا تذاكر الدخول ومشينا نحو فوهة الكهف تاركين وراءنا قطاراً شابَ قبل عمر الشباب، فبقي جثة هامدة. رافقنا مرشدٌ عمانيٌ يتكلم لغتين بطلاقة. نبهّنا على اشتراطات السلامة من درجات الحرارة والرطوبة داخل المغاره. وشدّد على ضرورة عدم التصوير. ثم لفتَ نظرنا إلى أن هناك 432 درجة سلالم طلوعاً ونزولاً، فيقيس كل زائر طاقته على قبول هذا التحدي أو العودة إلى المركز. دخلنا بطن الجبل وابتدأنا نشاهد الصخور ونذهل أمام جمال المغارة والتماثيل التي نحتتها المياه في الصخر يتوقف المرشد ويدعونا لرؤية رأس أسدٍ هنا، وتمساحٍ هناك وامرأةٍ جالسةٍ تسرِّح شعرها ويجدّد لنا التحذير من التصوير ويدلنا على الكاميرايات الخبيثة التي تراقبنا.
عدنا إلى الفندق وأخذنا وجبة العشاء في حديقته وهواءٌ باردٌ يداعب اجسادنا، لم نتعود عليه في العاصمة. وفي صباح اليوم التالي، أي السبت، دخلنا سوق نزوى. سوق الحلويات يملؤه الزبائن ووراء كل محلٍ شابٌ عمانيٌ يديره. احياناً يجلس شيخٌ على كرسيِ خشبي قرب البضاعة المعروضة للبيع. نشتري الحلوى على أنواعها والقهوة على نكهاتها.
في الساحة الخارجية نلتقي زملاءنا (رباعتنا) الذين اشتروا الفخّار والعصي المقطوعة من خشب ’العِتم‘ القاسي.
يومان قضيناهما في نزوى. استمتعنا بالأماكن وبالتاريخ وبالعروبة الاصيلة. تمتعنا بالمأكولات بالتاكيد، لكنني شخصياً فرحت كثيراً بروح الشباب هناك وقد امسكوا مصيرهم بأيديهم وبادروا بأعمالهم الخاصة بثقة وفرح.
لاتذمّر ولا حديث عن باحثين عن عمل، أو نسب تعمين، أو توظيف. الحديث عن ريادة الأعمال فقط. هكذا كان آباؤهم عندما جئت عمان عام 1970.
ليت جميع المسؤولين يبقون يومين في نزوى.