د.رضية الحبسية
تتمثل مهمة الحوار بين البشر في مدّ جسور الانسجام والتّعايش مع الآخرين؛ احترامًا لمعتقداتهم وثقافاتهم وإنّ تناقضت مع أفكارنا وما نؤمن به؛ وصولًا إلى نقاط تفاهم مشتركة، دون انصهارأحدهما في الاخر. ويقوم الحوار على ركيزة مهمة هي الاعتراف بالاختلاف والتنوع في الرؤى ووجهات النظر، وبحرية التعبير عنها.
تزخر بيئات العمل بالمواقف اليومية التي تتفجر معها صورًا من التّباين في المفاهيم والقيم؛ نظرًا لما تحويه من موظفين متبايني الخلفيات والثقافات والتنشئة الأسرية. الأمر الذي يُلقي بتحديات على المؤسسات والأفراد أنفسهم للتّعايش في أُلفة ووئام؛ وتقبل الاخر وتحقيق الانسجام. وبالمقابل فإنّ الاختلاف غالبًا يمثل قوة مؤسسية، إذا ما أُحسن إدارتها وفق الأنظمة والبروتوكولات التنظيمية.
إنّ الدارس للسيرة العطرة للنبي ﷺ، يجدُ أروع النماذج لتطبيق قواعد الدولة الإسلامية في حسن التّعايش مع الاخر. فحينما هاجر عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم إلى المدينة المنورة وضع صحيفة المعاهدة مع اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة، وفيها من القواعد والمبادئ ما يحقق العدالة المطلقة، والمساواة التّامة بين البشر.قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}. (سورة هود، الآية: 118)
إنّ التّعايش السلميّ بين العاملين مقوّم أساس لنجاح العلاقات الاجتماعية داخل المؤسسات المهنية؛ لضمان العمل بانسيابية وتناغم كبيرين لتحقيق غايات ورؤى المؤسسة. فعملية تقبل الآخر قيمة لا تتأتى بين عشية وضحاها، إنما تتطلب العناية بها منذ التنشئة الأولى للإنسان؛ من خلال إرساء ثقافة احترام التعدد والتنوع في نفوس الناشئة، وتنمية مهارات الحوار والنقاش والمناظرة المنطقية دون تعصب لرأي أو لفكرة.
إنّ قبول الآخر لا يعني الذوبان وفقدان الهوية الشخصيّة، بل هي ثقافة تتطلب الاحترام المتبادل بين الأفراد. فالاعتراف باختلاف الاخرين في قناعاتهم حق، وبخس قدراتهم عقوق. فكما يبحث المرء عن حقوقه، فالآخر يسعى أيضا لممارسة حرياته. لذا على الكل أن يقرّ أنّ الاختلاف بين الناس في أشكالهم وألوانهم ونوعهم ومعتقداتهم، هو سنة إلهية وحكمة ربانية. وعلى كل فرد تقبل الآخرين وتطوير مهاراته؛ لإيجاد مناطق مشتركة بينه وبين من حوله، وبالتالي العيش في سلم وأمان. قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. (سورة يونس، الآية: 99)
الاختلاف ظاهرة طبيعية في منظومة الحياة بأكملها، والحياة الوظيفية جزء من الكل، بل الموظف جزء من هذه المنظومة الأصغر، ولأن اختلاف الناس طبيعي وتكاملي، فإنّ قبول هذا الاختلاف يبدأ باحترام صاحبه، وفهم وجهة نظره، وعدم الوقوف على ألفاظه، أو تصيّد عثراته. وكما أنّ الإنسان بحسب هرم ماسلو للحاجات الأساسية بحاجة إلى التقدير والاحترام، فعلى كل منا أن يُعامل الآخر كما يُحب أن يُعامل. فلا تنهى الناس عن شيء وتأتي بمثله. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. (سورة الحجرات، الآية: 13)
إنّ من أهم مظاهر التّعايش السلميّ وتقبل الاخر داخل بيئات العمل أيضًا: احترام الآراء، وذلك بالتزام الفرد بآداب الحديث، تجنب التّعصب والسخرية بالآخرين، وعدم التهميش أو استقصاء المتحدثين. إضافة إلى مراعاة أن يكون النقد موجهًا للرأي والفكرة، لا للشخص المتحدث، فذلك سلوك يُجنّب الوقوع في كثير من الإرهاصات المنتشرة، والمتمثلة في شخصنة الأمور. فمتى تحول النقاش أو الجدال إلى شخصنة، فُقِد الود وساءت العلاقات بين منسوبي الوحدة الواحدة. لذا ينبغي تفادي تحويل المواقف إلى فُرص لتصفية حسابات سابقة، أو تحقيق مصالح شخصية غير مهنية على حساب العمل أو الوفاء بمتطلباته. وأُختم المقالة بالمقولة التالية: (الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية).