مسقط - الشبيبة
بقلم: د.رضية بنت سليمان الحبسية
أينما وجدت التّجمعات البشرية، وجد ما يُسمى بالمجاملات في التّعاملات اليومية. سواء في المجتمعات المدنيّة، أو الوظيفيّة. فهي سلوك يسلكه الفرد لغايات ومآرب، فإما أن تكون محمودة، أو مذمومة. وقد يتسع المفهوم ويتمدد: ما بين لُطف العبارات، والمسايرة، والمداراة ، إلى حدّ النفاق. وما بين تلك المرادفات، معياران مهمان: مدى صدق المتحدث، ودرجة تأثر المتلقيّ بالإطرائيات والتمجيدات. فما بين أن تكون ذا مصداقية وشفافية، أو زيف مغلّف ومراوغة. والوسطية في الأمر حكمة. وهنا تحضرني مقولة: لا تبالغ في المجاملة حتى لا تسقط في بئر النّفاق، ولا تبالغ في الصّراحة حتى لا تسقط في وحل الوقاحة.
لا ريبَ أنّ الطبيعةَ الإنسانية تأنس لحلو الكلام، وعذب الحوار، إلّا أنّ المبالغة فيهما تكشف صاحبهما ولو بعد حين. حينما يعود إلى فطرته، أو انتهت مصلحته، أو غادر صاحبه موقعه، أو ترك منصبه. فالمجاملة فن وذوق، بل يعتبرها البعض ثقافة، تتطلب التّمرس عليها، والتّمكن منها، بل واتقانها؛ حتى تسير أمورك، أو تتجنب عدوك، أو تتقي شر مسؤولك. وبالمقابل ففي الأمر متضادات: بين أن تفقد احترامك لذاتك، أو تتمسك بقيمك ومبادئك. فإذا كان من ينتهج المجاملة والمبالغة فيها، ذوقًا وفنًا رفيعًا، فلا يرى في الحال قضية. في حين من يرى أنها كذبًا ونفاقًا لاذعًا، فالأُسس والأَخلاقيات تأبى المداراة والمسايرة على غير حق.
ففي إحدى المواقف النّكرة: سُئل عن فُلان: كيف هو؟ فيأتي الجواب: كفء ومعطاء، لكنه لا يسايرهم، أو بمعنى آخر لا يجاملهم. فهل أصبحت المصداقيّة والشَّفافية عيبًا؟ أأصبحت الأخلاق نقصًا؟ وهل أصبحت المثُل عائقًا للترقي؟؟ فإن كانت تلك ثقافتهم، فلتكن بينهم، لا على حساب الوطن، أو الإخلاص في العمل. حيث تُمثّل أخلاقيات أي مهنة تشريعات، وخط أحمر لا يجوز تخطيها لمصلحة شخصيّة، أو أهداف ذاتيّة.
كثيرٌ ممن يتحدثون ويتشدقون بالمثُل، والقيم الأخلاقية في مجالس الحمد والثَّناء، وفي واقعهم لصوص المشاعر والعواطف أينما وجدوا؛ بغية لفت الأنظار إليهم، وكسب ود من حولهم، وقد يصل لتعويض نقص بداخلهم. فهؤلاء يعانون من اضطرابات نفسيّة بين ما يريدون الوصول إليه، وبين قصور في شخصياتهم وقدراتهم. فتكون ثقافة المجاملة أقصر وأقرب السُبل؛ لتحقيق غاياتهم. فينتهزون الفُرص لإعلاء من يستحق ومن لا يستحق دون تمييز، ومن خلفك كما يقول المثل: يروغ كما يروغ الثعلب.
وفي موقفٍ آخر مثيرة للاهتمام: حدّثني زميل عن موقفٍ حدث له، حينما اعتلا موقعًا وظيفيًّا عن جدارةٍ واستحقاق، جرّاء منافسة قوية مع جملة من المترشحين. وبعد مرور بضع شهور من العمل الجاد والمتقن، وبرضا وظيفيّ عالٍ، إذ يُعيّن عليه رئيسًا فظ المعاملة، غليظ المعشر، وعدو للإبداع. فظلّت الحرب بينهما مستمرة، واستمر معه عطاؤه برغم الرياح العاتية صعودًا ونزولًا. وفي خضم تلك السجال وما خلفته من آثار نفسية، وشروخ وظيفية، وأعطاب مهنية، تأتيه المكافأة باستقصائه وتنحيه عن منصبه، لا لذنب اقترفه، ولا لقصور أتى به، إنما لكون فاشلًا بحسب قانون المجاملة والنّفاق. وصَدَقَ قول مقرّب له حينئذٍ: حتمًا لن تصل إلى أبعد ما أنت عليه؛ كونك صريحًا، واضحًا، وللحق ناصرًا.
هنا نتأمل ذلك المواقف، ومواقف كثيرة مماثلة: هل النّجاح الوظيفيّ مقرون بالمجاملة الخادعة، أو الغش المُبّطن؛ تجنبًا لصدامٍ مع المتعاملين معك؟ وهل الوفاء بمتطلبات العمل الوظيفي مرهون بالرضا التّام ممن حولك؟ فإن كان هذا حالنا، وهذا واقعنا، ينبغي مراجعة قيمُنا المؤسسية، ومعايير الترشح للوظائف الإشرافية، والتّعيين للمناصب القيادية، وأسس التّقييم والمحاسبية.
وإلا فإنّه من الخطورة فقدان الكفاءات المخلصة؛ نتيجة هجرتها واستقطاب جهات أخرى لها. والنتيجة الحتميّة، بيئة مهنية طاردة، تكمن في: سيادة القهر، الركود المهني، تبدد الجهود، وصراع الديكة.
ونختم المقال بقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ (سورة النساء، الآية: 135).