كتب: أحمد بن عيسى الشكيلي
باشر أبناءنا الطلبة والطالبات عامهم الدراسي الجديد، العام المحفوف بالكثير من الغموض، المقيّد بأصفاد الخوف، وها هم على مقربة إنهاء اسبوعهم الدراسي الثاني، الذي ربما الكثير منهم لم يعرف حتى الآن من الدراسة إلا اسمها، في ظل هذا الوضع الغريب الذي أكاد أجزم بأن كل اسرة تعيشه بتوترٍ وقلق بالغ، إلا من كان له حظ يفلق الصخر كما قيل .
في بداية الأسبوع المنصرم، طالعتنا وزارة التربية والتعليم بخبرٍ أعربت فيه عن ارتياح الأسرة التربوية من اليوم الدراسي الأول، كما طالعتنا الوزارة عبر حسابها على شبكة تويتر بإحصاءات وبيانات حول محاولات الدخول إلى المنصّات التعليمية المستحدثة للتعليم المدمج، أو الإلكتروني، أو عن بعد كما شاءوا أن يصطلحوا عليه، ولكن في المقابل ما الذي يحدث على أرض الواقع من خلال آلاف الأرقام التي أعلنتها الوزارة ؟!
قد تكون النتائج صادمة، وأتوقعها كذلك، حتى لو حاول المختصّون أن يقولوا غير ذلك، وما خفي خلف هذه الأرقام أكبر بكثيرٍ مما نتوقع، وينبغي الوقوف عنده وقفة تصحيح لا تلميع، والعمل على تجويد ما تم من خلال تقييم الوضع الحالي الذي يسير عليه التعليم، وسبر كافة المكونات التي يحتاجها، ومحاولة إيجاد الحلول الناجعة لأي مشكلة، أو قرار تم اتخاذه في غير محلّه، سواءً فيم يتعلق بوزارة التربية والتعليم كجهة مناط بها العمل والإشراف على الحقل التربوي وتطويره بما يتوافق ومعطيات العصر، ولا يخلّ في الوقت ذاته بجودة التعليم أو المستوى التحصيلي للطلبة، أو ما يتعلق بجهات أخرى والتي باتت تشكّل عصب التعليم كهيئة تنظيم الاتصالات باعتبارها جهة تشريعية ورقابية على قطاع الاتصالات، أوالشركات المزودة لخدمات الاتصالات والانترنت .
أحد مسؤولي الوزارة قال في تصريحٍ له أن العام الدراسي لابد أن يبدأ، ومع اتفاقنا معه بضرورة بدء العام الدراسي إلا أنه كان يجدر به أن يقف على كافة الخدمات والبنى الأساسية اللازمة لبدء العام الدراسي، ولعل أهمّها وأبرزها قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات، الذي صرّح أحد المسؤولين في هيئة تنظيم الاتصالات في مؤتمر صحفي للجنة العليا بأن كافة خدمات الانترنت متوفرة في السلطنة ! فالطبيعة الجغرافية لهذا البلد بتنوعها تقف عائقًا أمام نجاح هذا العام بهذه الكيفية التي يمضي عليها الآن، ولعل قائل يقول أن ليس من مهام ذلك المسؤول أن يقف على البنية الأساسية اللازمة، ولكن في المقابل من مهامه أن يسعى نحو إنجاح العام الدراسي، والنجاح في الحقيقة لا يكون مجرد كلام، بل لابد أن يكون واقعًا معاشًا، وله مكونات لابد أن تتكامل مع بعضها البعض .
إن قطاعًا كقطاع التعليم يُعد الأهم، فبه ترقى الأجيال، وبه تحقق الشعوب معارفها وتطلعاتها نحو المستقبل، فلا ينبغي أن نقف مكتوفي الأيدي، ونكرِّر التصاريح ذاتها، ونتغنى بنجاح العملية التعليمية ونعبّر عن ارتياحنا وسرورنا منذ اليوم الأول بينما الواقع شيء آخر. الاعتراف بالخلل والإقرار بوجود مشكلة هي الطريق الصحيح نحو البحث عن حلول، فالاستمرار ليس في صالح العملية التعليمية بأسرها وبكافة مكوناتها، كما هو ليس في صالح المسؤولين أنفسهم الذين يغدقون علينا بتصاريح وبيانات صحفية بين الحين والآخر.
على صعيد آخر، هنالك الكثير من القرى والتجمعات السكنية من يصعب فيها الحصول على شبكة للاتصالات؛ فكيف بأهالي تلك القرى أن يعلِّموا أبناءهم وبناتهم، وهم في الواقع لا يستطيعون الولوج إلى الشبكة لضعفها الشديد، وعدم تغطية مناطقهم بشبكة اتصالات قادرة على أن تلبي طموحات المعلّم والمتعلّم وولي الأمر؟!
وكما هو الحال بالنسبة للشبكة وما يرتبط بها، فهنالك ملاحظات هي الأخرى تتعلق بعناصر وأركان العملية التعليمية في هذه الظروف الراهنة، ويمكن أن نقسّم هذه الأركان بين ( الطالب، المعلّم، الوسيلة التعليمة، وولي الأمر)، فكل عنصر من هذه العناصر تحيط به الكثير من المعضلات والتي في أغلبها خارجة عن إرادته، وتتنوع هذه المعضلات إما تقنيّة كشبكة الاتصالات ومدى توافرها، وجودتها في حال توافرها، أو مدى توافر الوسيلة التي ترتكز عليها العملية التعليمية كالحواسيب، أو الأجهزة اللوحية، أو غيرها من وسائل يمكن من خلالها الولوج إلى المنصات التربوية التي استحدثت هذا العام، وكذلك المعضلات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالأسر، من حيث توافر القدرة الشرائية لوليّ الأمر حتى يوفّر لأبنائه ما يحتاجونه من وسائل، مع علمنا أن أغلب الأسر العمانية في العادة أسر ذات دخول محدودة ومتوسطة، كما أن عدد افرادها كبير، وهذا قد يكون له تبعات متعددة تفوق إمكانات الأسرة ماديًّا، هذا عوضًا عن ما يتطلبه وجود الطلاب وأغلبهم أطفال صغار في المنازل لوحدهم دون رقابة أبوية خصوصًا للأسرة التي يعمل الأب والأم فيها، وعندما نتحدث عن الرقابة الأبوية فليس القصد كيفية قضائهم ليومهم داخل المنزل فقط، وانما قد تمتد هذه الرقابة نحو إحكام الضبط والرقابة على المحتويات التي تعجّ بها شبكة المعلومات الدولية، وقد تكون لا تتوافق وقيم المجتمع وعاداته، هذا عوضًا عن تعريض مستخدمي الشبكة لما بات يصطلح عليه بالإبتزاز الإلكتروني، وبرغم توافر القيود الإلكترونية على المحتوى إلا أن هذا البحر غزير بمحتوياته، وكل يوم بل كل ساعة تُضخّ في الشبكة الكثير من المحتويات والمواقع التي يصعب على الشخص المتخصص في هذا المجال إدركها، فكيف هو الحال بوليّ الأمر!.
وعودًا على بدء فإنني كوليّ أمر حتى اللحظة لم استشعر أية بوادر لنجاح التعليم بكيفيته هذه، فكثير من الطلبة ما زالوا يعانوا في سبيل تفعيل المنصات التعليمية وفتحها، بغض النظر عن الأرقام والإحصاءات التي أعلنتها الوزارة كمحاولات الدخول للمنصة، أو عدد الزوار لها، كما أن الكثير من الطلبة لم يجدوا موادهم التي يجب أن يدرسوها مدرجة على المنصة، وبعضهم يستفيق مع إشراقة الصباح ويقبع عاكفًا على الحاسوب، فلا معلّم يأتي لينوّره وفقًا للجدول الدراسي المعتمد، ولا محتوى يجده على صفحات المنصة، ولا يجد سوى حوارًا يتجاذبه مع أقرانه بينما هم ينتظرون بارقة أمل علّها تلوح في الأفق، أما الغاية التي لأجلها اعتمد هذا النوع من التعليم فلم تتحقق بعد، بل لجأت بعض المدارس وللأسف الشديد إلى استخدام تطبيق الواتس أب كمنصة دراسية، وقد يكون تصرّفًا فرديًّا إلا أنه قابل للتوسّع والانتشار، وبالتالي فلا ندري كنه المآلات التي سيسير عليها الوضع مع هذه الضبابية التي باتت تخيّم على مشهد العام الدراسي، لاسيما وأن الشائعات تتواتر بين حينٍ وآخر والطالب يتلقاها، والمعلم يتلقاها، وولي الأمر يتلقاها ولا حول لهم جميعًا ولا قوّة .
لعل المعاناة الأبرز ستكون لطلبة الحلقة الأولى، أولئك الأطفال الذين يفتقرون إلى المهارات التقنية في التعامل مع الحاسوب، خصوصًا من هم في الصف الأول، فكيف بهؤلاء أن يتعاملوا مع حصص دراسية مباشرة - في حال تنفيذها - ويتفاعلوا مع المعلّمة ويستشعروا جو الحصة الدراسية بطرائق التعليم المتعددة، كيف لهم أن يتصرفوا فيما لو انقطع عنهم الاتصال بالشبكة، أو تعرّضوا لمشكلة تقنية، كيف لهم أن يقوموا بذلك وأكثر في حال كان والديهم مرتبطين بأعمالهم، بعيدين عنهم، غير قادرين على توجيههم ولا إرشادهم، وغير قادرين حتى ان يتحققوا بأن أبنائهم يسيرون على الدرب الصحيح.
كان الطلاب قبل ذلك متوقِّدي الحماس، متطلعين نحو تطبيق اسلوب تعليمي جديد، ولكن أرى أن الحماس لن يدوم مع هذا الوضع، فقد بدأ السأم والملل يغزوا أنفسهم، والوضع بهذه الحالة سيسلبهم شغفهم وسعيهم نحو التعلّم، لاسيما وانهم يفتقدون لجو الصف الدراسي بما يحويه من روح التنافس والمشاركة الصفية، هذا عوضًا عن الخيبة التي بات يشعر بها أولياء الأمور، فالكثير منهم حمّلوا أنفسهم ما لا تطيقه في سبيل توفير الأجهزة لأبنائهم، وليت الأجهزة وحدها فقط، بل ارتبط بالأجهزة أشياء كثيرة كالاشتراك في خدمات الأنترنت بمبالغٍ وقدرها، أو توفير أثاث دراسي داخل المنزل، ولعلّ بعض الأسر طبّقت المثل العماني القائل : ( عندك تأكل؟ قال لا، عندك تغرم؟ قال : غصبًا عنّي ! ) .
همسة أخيرة لكل مسؤول عن هذا القطاع نحن ندرك ما أحدثته جائحة كورونا على العالم كلّه، وما عانت منه مختلف القطاعات بسببها، ومع ذلك فإن أبناءنا ومستقبلهم الذي هو مستقبل عُمان بأسرها أمانة في أعناقكم، وليس من العيب في شيء أن نعترف بوجود خلل وخطأ ونسعى إلى تصويبه، بل العيب أن نستمر في السير عليه؛ ونغض الطرف عنه، ولا نكترث بنداءات أولياء الأمور، كونوا عونًا لهم، كما كانوا عونًا لكم في كل ما طلبتموه، فالغد الباسم لا يتحقق بإخفاء العيوب بل بمعالجتها، والخروج بدروسٍ وعبر تجنّبنا جميعًا الوقوع فيها مرة أخرى، ليس لأجلنا فحسب؛ بل لأجل عُمان .