إعداد: نصر البوسعيدي
« في مشهد مهيب وصادم للكثير وقف ذلك العماني بعمامته البيضاء في جبل عرفة مخاطبا الناس بكل قوة بعدما تمكن وجيشه من السيطرة على مكة بأن عهد الأمويين سينتهي وبأنهم قادمون لمحاربتهم واسقاط حكمهم من أجل العدالة وتطبيق شرع الله والمساواة بين الناس»..
كان الفكر العماني لجابر بن زيد في البصرة يتغلغل في نفوس أتباعه والمبني أساسا على القيام بالثورة ضد الظلم والحكم الجائر الذي كان سائدا بعد فتنة المسلمين في قضية الخلافة ومقتل سيدنا عثمان بن عفان ومن بعده سيدنا علي بن أبي طالب وانفراد خصمه معاوية بن ابي سفيان بحكم الخلافة ليؤسس دولة قوية جدا عرفت بالخلافة الأموية والتي حكمت أجزاء كبيرة جدا من الوطن العربي وأواسط آسيا تلك البقاع التي كان للعماني المهلب بن أبي صفرة الفضل الأكبر في ضمها لممتلكات الأمويين.
حينما أصبح الحجاج بن يوسف الثقفي واليا على العراق بأمر الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، شدد الخناق على كل المعارضين قتلا وترهيبا، بل كان يتوجس خيفة من العمانيين القاطنين بحي الأزد بالبصرة تحت قيادة شيخهم الكبير جابر بن زيد الذي خرج من نزوى وهو شاب متوجه لطلب العلم خارج عُمان وأصبح من اشهر التابعين وتلامذة أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها.
لذا كان جابر بن زيد المرجع الأول لجميع العمانيين والأتباع في البصرة بل كان هو المدبر الأول لفكرة المعارضة السياسية الممزوجة بعقيدة الجهاد ضد الظلم والحكم الوراثي الذي اتخذه الأمويين مخالفين بذلك سيرة الخلفاء الراشدين في مبدأ الخلافة عن طريق الشورى بين المسلمين بطرق أشبه بالديموقراطية التي يشهدها اليوم العالم المتقدم.
ولأن تأثير جابر بن زيد كان يتمركز أكثر بأهل عُمان كونهم من أبناء جلدته وأكثر من تعرض لقسوة الجيوش الأموية التي تهاجم موطنهم لإخضاعه وإسقاط حكمهم الذاتي بقيادة أبناء الجلندى وتحديدا سليمان وسعيد ابني عباد بن عبد بن الجلندى المعولي، الذين ذاقوا ذرعا بعد معارك عديدة أرسلها الحجاج إليهم بين كر وفر، ليقرروا تجنيب البلاد بعد سقوط آلاف الشهداء من حروب وكوارث متكررة بالسفر والهجرة إلى شرق أفريقيا وتأسيس إمارة عمانية هناك تنافس الوجود الأموي في تلك الأنحاء وخاصة ناحية الصومال وكينيا وغيرها من أصبحت بفضل تواجدهم امارات عمانية لعدة قرون.
بعد مرور السنوات ووفاة جابر بن زيد العماني والحجاج بن يوسف وعبدالملك بن مروان وتعاقب الخلفاء من بعده، بدأ أتباع جابر في التفكير جليا بإعلان الثورة ضد خلفاء بني أمية منادين بالعدالة والحرية وديمقراطية الحكم على النهج الإسلامي القويم، فبدأ أبو عبيده مسلم بن أبي كريمة التميمي وهو أشهر تلامذة جابر بن زيد من التركيز على إرسال تلامذته إلى موطنهم كعُمان بقيادة المختار بن عوف السليمي المعروف بأبو حمزة الشاري ابن مدينة صحم، وفي اليمن بقيادة عبدالله بن يحيى الكندي المعروف بطالب الحق والذي أصبح قاضيا في حضرموت.
في اليمن كانت الأوضاع مهيئة للغاية لقيام الثورة فقد استطاع طالب الحق في فترة قصيرة من جمع عدد كبير من مناصريه ضد الدولة الأموية وولاتها، لذا فقد وجد هذا الثوري البيئة المناسبة لإعلان الخروج عن سلطة الخلافة التي كانت بيد آخر خلفاء بني أمية والمعروف بمروان الثاني بعدما استشار علماء البصرة وشيخهم أبو عبيده الذي اتفق معهم بضرورة إعلان الثورة بدعم من العمانيين بقيادة أبو حمزة الشاري الذي أتته الأوامر ليتجه مباشرة إلى اليمن ليشهد مع أصحابه مبايعة طالب الحق إماما وحاكما على البلاد سنة 129هـ، حاملين معهم وصية شيخهم أبو عبيدة الذي كتب لهم نصيحته قائلا : « إذا خرجتم فلا تغلوا ولا تعتدوا، واقتدوا بأسلافكم الصالحين واستنوا بسنتهم، فقد علمتم أنما أخرجهم على السلطان العيب لأعمالهم».
وأول ما فعله طالب الحق بأن أعلن سياسة التسامح مع معارضيه وكان ينادي الجميع للإصلاح والثورة ضد الظلم مستثمرا حالة التذمر الشعبي ضد قسوة الولاة الأمويين، ليكسب شعبيته بين اليمنيين ويسيطر على حضرموت دون مقاومة تذكر ومنها توجه لبقية المدن اليمنية مع حرصه الشديد على معاملة الناس بالعدل والإحسان وإظهار المساواة بين الجميع، لذا فقد نال طالب الحق ثقته بشكل أكبر بتعاطف المجتمع مع حراكه الإصلاحي والثوري ليقرر الدخول إلى صنعاء وتحريرها من والوالي القاسم الثقفي الذي لم يستطيع الصمود أمام الجيش الثائر فتلقى هزيمة كبيرة انسحب على اثرها إلى الشام تاركا صنعاء لطالب الحق وأصحابه يتقدمهم القائد العماني أبو حمزة الشاري.
كانت اليمن في عهده البسيط تنعم بالعدل وهي بيد ابنها الذي استمر بنهجه المعتدل وبعدم جبر الناس باعتناق أفكاره ومعتقداته بما انهم محايدين سلميين لا يشكلون عليه أي خطر في استمرار هدفه الأسمى للقضاء على الحكم الأموي وتطهير اليمن ومنها التقدم إلى مكة والمدينة، فالسيطرة عليها يعد انتصارا ساحقا لطالب الحق وأصحابه خاصة أن بمكة من يمهد الأمر للثورة كصاحبهم علي بن الحصين من كان له دورا كبير في اقناع أقربائه ومعارفه هناك لتقبل حراك وأهداف الجيش القادم من اليمن.
لقد أشار أغلب المتابعين لهذا الحدث بأن استعجال طالب الحق واصحابه للهجوم على الأمويين في مكة والمدينة يعد خطأ استراتيجي كانت نتائجه كارثية عليهم فيما بعد.
فقد أمر طالب الحق صاحبه العماني أبو حمزة (المختار بن عوف) بقيادة جيش الثوار والتوجه مباشرة إلى مكة والاستيلاء عليها ومنها إلى المدينة عام 129هـ بموسم الحج، فقد كانت الخطة تقتضي بأن يتجهون بعد ذلك مثلما أسلفت إلى الشام للقضاء نهائيا على الأمويين وهم في مرحلة ضعف وثورات تحاصرهم من كل جانب، فبغداد تثور ضدهم ومعها فلسطين ومدينة الغوطة وغيرها بالإضافة إلى تشتت العائلة الحاكمة فيما بينهم من أجل السلطة واسقاط الخليفة مروان بن محمد.
وبالفعل تحرك الجيش من اليمن والبالغ عدده تقريبا ألف جندي وفيه من القادة برفقة أبو حمزة كذلك بلج بن عقبة، وأبرهة الحميري، بالإضافة إلى ابن مكة علي بن الحصين الذي ينتظرهم بالقرب من الكعبة ومعه 400 جندي من اتباعه، وبينما كان الحجاج يؤدون مناسك الحج تفاجئوا بأبو حمزة الشاري وهو يعتلي جبل عرفة ويخطب فيهم مناديا الجميع للانضمام إليهم في محاربة الأمويين وطردهم من الحجاز وهو يقول للحجاج عن بني أمية:
«لقد اتخذوا عباد الله خولا، ومال الله دولا، يأخذون بالظنة ويقتلون على الغضب، ويأخذون الفريضة من غير موضعها ويضعونها في غير أهلها وفي عهدهم زاد الغني غنى، وزاد الفقير فقرا، إننا لم نخرج من ديارنا وأموالا أشرأ ولا بطرا...، ولا لطلب ملك، ولكننا رأينا مصابيح الحق قد عطلت، وعُنف القائل بالحق، وقُتل القائم بالقسط، وضاقت علينا الأرض بما رحبت...».
كان هذا المشهد مفاجئا وصادما للكثير وهم يرون بأن شعار المقاومة والمسلحين قد أحاطوا بالمكان ليضطر مباشرة والي الأمويين واسمه عبدالواحد بن سليمان بن عبدالملك الانسحاب نحو المدينة تاركا مكة دون أي مقاومة تفاديا من معركة دموية والناس يؤدون مناسك حجهم، مما أثار حفيظة الخليفة الذي عزله مباشرة وعين بدلا منه عبدالعزيز ابن الخليفة الراحل عمر بن عبدالعزيز.
لقد كان عبدالعزيز على معرفة تامة بخصومه، فلقد كان حاضرا حينما قدم الوفد العماني بقيادة أبو حمزة ذاته لوالده عمر بن عبدالعزيز حينما كان خليفة للمسلمين يحاورونه ويطلبون منه عزل واليه الذي أساء السيرة في عُمان، ورأى كيف كانت بعض مطالبهم يشوبها نوعا من التشدد الذي انتقده كذلك شيخهم أبو عبيدة والذي قال عنهم : «ليتهم قبلوا منه» أي ليتهم تفاوضوا بشكل أفضل مع الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز.
وعطفا على ما سبق فقط جهز عبدالعزيز جيشا من أهل المدينة استعدادا للمعركة الكبرى بلغ عدده 8 آلاف مقاتل، في المقابل أمر أبوحمزة الشاري بعد سيطرته المطلقة على مكة التوجه إلى المدينة والاستيلاء عليها، وما أن شارف وجيوشه بالوصول إلى أبواب المدينة حتى تقدم اليه جيش المدينة الذي أُسندت قيادته لعبدالعزيز بن عبدالله بن عمر بن الخليفة الراحل عثمان بن عفان رضي الله عنه، ليلتقي الجيشين في معركة ( قديد ) سنة 130هـ، وهناك حدثت الكارثة بعدما اشتبك الطرفين وقتل عدد كبير من أهل المدينة الذي كان يضم كبار القوم من قريش والانصار، ليضاف إلى تاريخ هذه الأئمة بكل أسى مشكلة أخرى امتدادا لفتنة مقتل سيدنا عثمان وتفرق المسلمين.
لقد أشار بعض المؤرخين بأن أبو حمزة الشاري كان صبورا جدا لعدم الاشتباك فطلب الهدنة وعدم اعتراض طريقهم للاستيلاء على المدينة، ولكن ما حدث عكس التمني فقد كان جيش المدينة مصرا على أن يقيم الحرب ويطرد الثوار لأسباب كثيرة ومنها عدم اتفاقهم في الأفكار والمعتقدات لأسباب خروجهم ضد الخلافة الأموية.
لم تكن أفكار الثوار تتناسب مع أهل المدينة فكان الأهالي متحدين خلف قيادتهم الأموية وهذا ما أربك صفوف وحسابات أبو حمزة الشاري واصحابه، فمثلما أسلفت كان استعجالهم وبالا عليهم، فنتائج معركة ( قديد ) والتي قتل فيها عبدالعزيز حفيد عثمان بن عفان وعدد كبير من الناس زادت كره المجتمع المدني لهم رغم أن هذا القائد العماني المعروف بفصاحته حاول بخطبته المشهورة تهدئة الوضع بعدما تمكن من فرض سيطرته واعتلاء منبر رسول الله في الحرم النبوي مخاطبا بكل أسى أهل المدينة معاتبا إياهم قائلا:
« يا أهل المدينة سألناكم عن ولاتكم هؤلاء فأسأتم فيهم القول، وسألناكم هل يقتلون بالظن، فقلتم نعم، وسألناكم هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام؟ فقلتم نعم، فقلنا لكم: تعالوا نحن وأنتم نناشدهم الله إلا تنحوا عنا وعنكم، فقلتم لا يفعلون، فقلنا لكم تعالوا نحن وأنتم نقاتلهم فإن نظهر نحن وأنتم نأت بمن يقيم فينا وفيكم كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ونقسم فيئكم بينكم فأبيتم ...، ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن والرجوع عن طاعة الشيطان وحكم مروان وآل مروان، وشتان لعمر الله ما بين الغي والرشد، فقاتلتمونا دونهم فقاتلناكم فأبعدكم الله وأسحقكم...، لقد أصابوا إمرة ضائعة وقوما طغاما جهالا لا يقومون لله بحق ولا يفرقون بين الضلالة والهدى، ويرون أن بني أمية أرباب لهم، فملكوا الأمر وتسلطوا فيه تسلط ربوبية، بطشهم بطش الجبابرة، يحكمون بالهوى ويقتلون على الغضب، ويأخذون بالظن، ويعطلون الحدود بالشفاعات... «.
لم تهدأ الأوضاع في الأرجاء فقد كان الثأر هو الطاغي بين الجميع، وتم اعتبار الثوار متشددين متزمتين اتجاه القضايا والفتن التي شغلت المسلمين وبالأخص قضية مقتل الخليفة عثمان وموقفهم المتصلب اتجاهه، لذا فقد ركز الأمويين للإطاحة بهم بإثارة تلك القضايا الخلافية بينهم فنجحوا بذكائهم وفشل أبو حمزه ومن معه من استمالة أهل المدينة لجانبهم، فاستغل الخليفة مروان هذا الاستياء ليجهز هذه المرة جيشا من الشام مكونا من 4 آلاف مقاتل بقيادة عبدالملك بن محمد بن عطية السعدي، وتقدم الجيش نحو المدينة ليلاقي جيش الثوار بقيادة بلج بن عقبة في معركة وداي القرى، وكانت النتيجة نصرا كبيرا لجيش الخليفة ومقتل ابن عقبة، لذا انسحب القائد العماني إلى مكة ليجمع أتباعه ويواجه قوة الجيش الأموي الذي سبقهم إليها ليلتقي الجيشان في أرض مكة وبعد معركة شرسة وعنيفة للغاية تم قتل أبو حمزة ومعه رفيقه علي بن الحصين وتم إبادتهم جميعا عن بكرة أبيهم ولم يبقي الأمويين على أي واحد منهم مقاتل أم أسيرا، بل لم يكتفي قائد جيش الخليفة بذلك بل مثلما أمره سيده توجه إلى اليمن ليتخلص نهائيا من زعيم الثوار الإمام طالب الحق الذي لم يستطيع وأصحابه من الصمود أمام الجيش القادم، فتم قتله هو واصحابه وقضي على حركتهم تماما سنة 132هـ، وهو نفس العام الذي انهارت فيه الدولة الأموية وتم القضاء عليها بيد أبو العباس السفاح من أعلن للعالم الإسلامي بداية عهد الخلافة العباسية من بغداد في الوقت الذي أعلنت فيه عُمان الثورة والخروج من تبعية العباسيين وانتخاب الجلندى بن مسعود إماما وحاكما على البلاد لتبدأ حكاية أخرى من فصول الصراع المرير بين أهل عُمان والجيوش العباسية.
المراجع :
1 – بيان الشرع ج69 - ج 70، محمد بن إبراهيم الكندي، طبعة 1993م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.
2 - الدولة في الفكر الإباضي، د.محمد صابر عرب، الطبعة الأولى 2012، دار الشروق – القاهرة – مصر.