إعداد: نصر البوسعيدي
برع أهل عمان طوال تاريخ حضارتهم في مختلف المجالات والعلوم، فنجد منهم القادة والعلماء والتجار والنواخذة والحرفيين كل في مجاله يصنع ما يليق بإبداعه وإخلاصه.
ولقد عُرف عن العمانيين نبوغهم وتقدمهم العلمي في مجالات شتى خدموا من خلالها البشرية وساهموا في تقدم الحضارة الإسلامية، فنرى جابر بن زيد ابن نزوى وتلميذ أم المؤمنين عاشة رضي الله عنها أكثر من حفظ الأحاديث النبوية ودونها مثلما يروى في كتاب ضخم جدا يعتبر من أوائل الكتب في تاريخ الإسلام يعنى بالحديث الشريف.
وهذا ابن المصنعة الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي استطاع بنبوغه حماية اللغة العربية وهو مؤسس علم العروض وصاحب كتاب العين وأول من وضع حركات التشكيل بالقرآن الكريم لكي يسهل قراءته ويحافظ على النطق السليم لآياته.
ولا ننسى ابن صحار أبو محمد عبدالله بن محمد الأزدي (ابن الذهبي) صاحب معجم الماء أول معجم طبي لغوي في العالم وتلميذ ابن سينا ليصبح هذا العماني مبدعا مجتهدا طوال حياته في علوم الطب والفيزياء حتى مات في اسبانيا أندلس زمانها.
وهناك العديد من العلماء والمفكرين الذين لا حصر لهم وحفظتهم المخطوطات التي وثقت نتاجاتهم العلمية عبر مختلف العصور والأزمان.
وفي هذا الموضوع سنذكر لكم سيرة أشهر أطباء عُمان قبل مئات السنين والذين عرفوا بعلمهم الغزير بعلم الطب وساهموا في علاج الكثير من المرضى طوال فترة حياتهم، بل إنهم استطاعوا توريث مهنة الطب لأبنائهم لتصبح بعض العائلات العمانية في مجال الطب نارا على علم كعائلة آل هاشم الرستاقية التي برز تاريخها الطبي في عُمان في القرن التاسع والعاشر والحادي عشر للهجرة، وكتبوا العديد من المؤلفات الطبية وكانوا أفضل من يقدم العلاج المجاني لمن يلجأ إليهم مريضا مع تشخيصهم الدقيق للكثير من الأمراض وإجراء العمليات الجراحية في تلك العصور القديمة من تاريخ عُمان، بل كانوا خبراء في تشريح جسد الإنسان ورسمه وتوضيح كل ذلك في مؤلفاتهم الباقية حتى يومنا هذا عبر المخطوطات العمانية القديمة، لذا حق علينا أن نعرف سيرة أشهرهم من كان له الفضل في انقاذ حياة الكثير من البشر ومنهم:
- الطبيب العماني راشد بن خلف بن محمد بن عبدالله بن هاشم القري العيني الرستاقي (ق 9 – 10 هـ )، والذي تتلمذ علميا وفقهيا على يد الشيخ سعيد بن زياد البهلوي والشيخ محمد بن عبدالله بن مداد وغيرهم، ولقد استطاع الطبيب راشد بن خلف تأليف العديد من كتب الطب أهمها منظومة (زاد الفقير وجبر الكسير) التي شملت توصيف الأمراض وطرق الوقاية منها، مستفيدا من اطلاعه على خبرات أطباء اليونان والمسلمين كمهدي بن علي الصبنري، واليوناني أبقراط، وابن جزلة البغدادي، والكحال علي بن عيسى، والجوزي، وأبي بكر الرازي، كما أنه كان حريصا على مراسلاته العلمية مع أشهر أطباء زمانه في مختلف الدول الإسلامية كالطبيب الفارسي كمال الدين بن طهر اللاري، والطبيب نصر الله بن حاجي الهرموزي.
ولقد حازت مؤلفات راشد بن خلف الرستاقي على اهتمام العديد من المتخصصين في مجال الطب كطبيب العيون الألماني المعروف ماكس مايرهوف وغيرهم.
- الطبيب العماني الآخر المعروف هو ثاني بن خلف الرستاقي وتميز في حياته في توصيف المرض وعلاجه كشقيقه الطبيب راشد بن خلف، وكان يعرف بالطبيب والفقيه لغزارة علمه في المجالين.
- الطبيب العالمي والخبير في علم التشريح قبل قرون راشد بن عميرة بن ثاني بن خلف بن محمد الهاشمي الرستاقي وهو أشهر طبيب ذاع صيته في عُمان وما حولها، وصنفته منضمة اليونيسكو في عام 2013م من ضمن الشخصيات العالمية التي خدمت البشرية في مجال الطب.
وقد قال عنه المؤرخ العماني الراحل الشيخ سيف بن حمود البطاشي في كتابه إتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء عُمان ج2 :
" أشهر أطباء بيت ابن هاشم وهو الطبيب الماهر الفيلسوف الشيخ راشد بن عميرة بن ثاني بن خلف الذي تشهد له على رسوخه ومعرفته في علم الطب وعلاج الأمراض مؤلفاته الجليلة النافعة"..
فالطبيب راشد مثلما أسلفنا نشأ في عائلة يمارس أهلها الطب أبا عن جد، فاستطاع الإستفادة من علومهم والإكمال عليها من خلال اجتهاده وشغفه في تقديم خدماته العلاجية لأبناء مجتمعه وبالمجان، فقد كان كريما معطاء وخصص جل حياته لخدمة المجتمع وعلاج الأفراد من أمراض كثيرة وعديدة، كما أنه حول بيته الكائن بالقرب من عين الكسفة بالرستاق إلى مستوصف ومستشفى لعلاج المرضى، وخصص جزء منه لصناعة الأدوية وكذلك غرفا للمرضى لغرض التنويم إن تطلب الأمر بعد العمليات الجراحية التي يجريها، فكان بيته بحق كعيادة أو مستشفى خاص يقدم خدماته الجليلة والإنسانية للجميع.
وقد برع وفاق أهل زمانه في علم الطب مثلما أسلفنا خاصة في ما يتعلق بعلم التشريح والعمليات الجراحية وتشخيص الأمراض بدقة وعلاجها، ولديه مؤلفات مهمة في ذلك رسم من خلالها جسد الإنسان والعينين والدماغ بشكل دقيق يثبت نبوغه في علم التشريح واجتهاده النبيل، كما انه لم يتوان في طلب العلم والإستفادة من الآخر، لذا نجده مسافرا لعدة دول لأشهر الأطباء في زمانه بحثا عن أفضل أنواع الأدوية وخلطاتها التي تنقصه في بعض الأحيان.
لذا لا غرابة أن نجد له بعد كل اجتهاده هذا في مسيرته الحافلة بالعمليات الجراحية وجبر الكسور ومعرفته العميقة بتشريح جسد الإنسان ووظيفة كل عضو أن نجد له العديد من المؤلفات المهمة في مجال تخصصه الطبي ومنها :
- فاكهة ابن السبيل الذي كتب فيه عن خلق آدم والأمراض وعلاجها وبيان أصل الطب وأهمية الوقاية من الأمراض وسبل ذلك.
- مختصر ابن السبيل ومحتواه كذلك في توصيف الأمراض وعلاجها
- منهاج المتعلمين وهذا الكتاب كتبه لإبنه عميرة وخصصه لأمراض الإنسان من رأسه وحتى أخمص قدميه.
-القصيدة الدالية التي شرح من خلالها وضائف أعضاء جسد الإنسان.
- القصيدة الرائية وهي تحوي على تفاصيل تشريح بعض أعضاء جسد الأنسان كالقلب والكبد والدماغ.
- القصيدة الميمية التي خصصها في تشريح العين ومكوناتها مع الدماغ وما يصيبها من أمراض وطرق علاجها.
- زاد المسافر الذي خصصه للكسور وعلاجها.
-وأرجوزة في الحجامة، والفصد، ومراحل عمر الإنسان.
كل هذه المؤلفات وأكثر لم يكتبها طبيبنا النابغة إلا بعد الكثير من التجريب والعمليات والتبحر والإستفادة من أشهر أطباء اليونان والمسلمين وأطباء الهند، ولقد سافر في إحدى رحلاته العلمية إلى الهند لملاقاة طبيب هندي مشهور لكي يكتشف فقط ما الذي ينقص دواءه الذي صنعه ولم يأت بمفعوله المتوقع اتجاه جسده بعدما جربه في مرضه، وحينما وصل للهند والتقى بالطبيب تذوق الدواء وعلم مباشرة فقط من أول وهلة وهو يتذوقه ما العشبة التي تنقص دواءه ليكتمل، ليواصل مسيرته الإنسانية في علاج الناس لوجه الله طوال سيرة حياته العطرة.
وبعيدا عن عائلة ابن هاشم هناك العديد والعديد كذلك من الأطباء العمانيين المشهورين ببراعتهم وتقديمهم لخدمات العلاج بالمجان في عصرهم كبشير بن عامر الفزاري، وعمر بن مسعود المنذري، بل أن بعضهم استطاع أن يصنع العكازات المناسبة أو الأرجل الصناعية الخشبية لمن قُطعت رجله كالطبيب علي بن عامر بن عبدالله العقري أحد أطباء مدينة نزوى الذي عاش في القرن 11هـ، واستطاع أن يصنع رجلا خشبيا للشيخ خلف بن سنان الغافري الذي قُطعت قدمه نتيجة المرض بعملية جراحية دقيقة لطبيب عماني بارع حاله من حال أشهر أطباء عُمان البارعين بالجراحة والتشريح وعلاج الأمراض وتشخيصها.
المرجع: العمانيون والعلوم التجريبية (الطب والهندسة والفلك والملاحة البحرية)، صالح بن محمد بن سليمان السيابي، الطبعة الأولى 2018م، رؤى مكتبة السيدة فاطمة الزهراء، دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت – لبنان.